الحرية – محمد زكريا:
في ظل ما يشهده القطاع الزراعي في سوريا من نقص متزايد في مصادر مياه الري، وارتفاع تكاليف المحروقات والطاقة، بدأ بعض الفلاحين، باللجوء إلى استخدام مياه الصرف الصحي لري محاصيلهم، وخاصة الخضر الورقية، ولاسيما في المناطق القريبة من المدن أو القرى المحرومة من شبكات الري المنظمة.
تهديد مباشر
قد تبدو هذه الخطوة منطقية من منظور اقتصادي ضيّق، لكنها في الحقيقة، تشكّل تهديداً مباشراً على صحة الإنسان والتربة والإنتاج الزراعي الوطني، لكن من يدفع الثمن بالنهاية..؟ بالتأكيد صحة المستهلك والفلاح والمحصول وأيضاً التربة هم المتضررون أولاً وآخراً
خبيرة للمزارعين: لا تُغامروا بصحتكم ولا بصحة عائلاتكم
ظاهرة قديمة جديدة
وحسب الخبيرة الزراعية الدكتورة انتصار الجباوي فإن هذه الظاهرة «قديمة جديدة» تتبدل حسب الظروف والأحوال الجوية وأحياناَ استسهالاً، فالمزارع أول المتضررين حيث يتعامل بشكل مباشر مع مياه ملوثة، تحتوي على طفيليات وبكتيريا وفيروسات، ما يعرّضه لأمراض جلدية وتنفسية وهضمية، كما إن الضرر سيأتي لاحقاً على التربة التي يزرعها وبالتالي ستفقد خصوبتها تدريجياً بسبب تراكم المعادن الثقيلة والمواد السامة، ومنه فإن المنتج الذي يبيعه الفلاح يُرفض في بعض الأسواق، ويُفقد ثقة المستهلك، ما يعني خسارة اقتصادية مضاعفة.
موضحة أن الضرر يأتي على المحصول والمستهلك معاً، حيث الخضر المزروعة بمياه ملوثة لا تُغسل من الداخل، وتُعد ناقلة مؤكدة للأمراض، كما تتراكم في أنسجتها مواد مسرطنة وبكتيريا خطيرة (كالإشريكية القولونية والسالمونيلا)، كما تؤدي إلى تسممات غذائية، وتشكّل تهديداً للصحة العامة، وخصوصاً لدى الأطفال والمرضى.
استخدامها بعد المعالجة
وعن الفائدة الزراعية لاستخدام مياه الصرف في ري الزراعات، بيّنت الجباوي لصحيفتنا، أنه في الجانب العلمي، حيث تحتوي مياه الصرف على بعض العناصر المغذية كالمادة العضوية، والنيتروجين، والفوسفور، لكنها لا تُستخدم إلا بعد معالجة متقدمة (ثلاثية أو رباعية)، تشمل: على ترسيب الرواسب الصلبة، ومعالجة بيولوجية لفك المواد العضوية، وترشيح وتعقيم للتخلص من مسببات الأمراض، ولكن المشكلة أن هذه التقنيات غير متوافرة فعلياً في أغلب مناطق الزراعة السورية، لا على المستوى الفردي ولا الجماعي.
ليست حلاً
وأشارت الجباوي إلى أنه حتى المحاصيل التي لا تُؤكل مباشرة (مثل الزيتون أو القطن أو نباتات الزينة) لا يُنصح بريّها بمياه الصرف غير المعالجة، وذلك لعدة أسباب منها تعرض التربة لتلوث دائم، كما ستدخل السموم في سلسلة الإنتاج من خلال التربة والمياه الجوفية، وبالتالي لا يمكن ضبط الضرر بعد أن يحدث، فالزراعة بالمياه الملوثة ليست حلاًّ.
بدائل وحلول
وأشارت إلى وجود عدة بدائل وحلول واقعية منها الاستثمار في محطات معالجة صغيرة قروية تحت إشراف هيئة الموارد المائية، وتفعيل دور الإرشاد الزراعي للتوعية بمخاطر هذا النوع من الري، مع إدخال تقنيات إعادة استخدام المياه الرمادية (من الحمامات والمطابخ غير الصناعية) بعد معالجتها البسيطة في القرى، وضرورة تحليل دوري للمياه والتربة، وتقييد بيع المحاصيل المروية بمياه غير صالحة، مع دعم الفلاحين بمصادر بديلة للمياه، كشبكات التنقيط أو حصاد مياه الأمطار.
رسائل مفتوحة
ووجهت الجباوي رسالة مفتوحة عبر صحيفتنا “الحرية” إلى الفلاحين لتقول لا تُغامروا بصحتكم ولا بصحة عائلاتكم لأجل سقي محصول قد يضر بكم أكثر مما ينفعكم، من حقكم المطالبة بمصادر مياه آمنة، لكن من واجبكم أيضاً حماية أرضكم وصحة الناس.
وإلى صُنّاع القرار والمنظمات قالت إنه قبل الحديث عن “الأمن الغذائي”، يجب أولًا ضمان أمن المياه وجودتها، فمزرعة تُروى بالمياه الملوثة لا تزرع غذاءً… بل كارثة مؤجلة.
سلوك يجب أن يُعاد
يذكر أنه في سنوات سابقة، كانت وزارة الزراعة، عبر وحداتها الإرشادية، تقوم بتوثيق مخالفات ريّ المحاصيل بمياه الصرف الصحي، وتصدر ضبطاً رسمياً يُرفع لمديرية الزراعة المعنية، التي كانت بدورها تتخذ قراراً شجاعاً قلب المحصول بالكامل ومنع دخوله إلى الأسواق، ليس الهدف من ذلك معاقبة الفلاح، بل هو حمايته من الضرر، ومنع أذى أكبر قد يلحق بالمجتمع، وبالتالي هذا السلوك المؤسساتي، القائم على المسؤولية والرقابة الصارمة، هو ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.