الحرية- مجد عبيسي:
تُعد سوريا من أقدم بلدان العالم التي شهدت تفاعلات حضارية عميقة، حيث تزاحمت عليها الثقافات والأديان، متشابكة في نسيج اجتماعي فريد عبر العصور. فهي بلد ينطق بتاريخ يمتد لآلاف السنين، ويحمل في طياته دروساً من التنوع الذي شكل وجدان السوريين، ومازال يحدد ملامحهم.
بدايات
يعود التنوع الديموغرافي في سوريا إلى عصور قديمة، حيث كانت مستوطنة حضارات متعددة، من سوريين أصليين، وآشوريين، وفينيقيين، وآراميين، وكلهم شكلوا ألواناً من الطيف الثقافي. انتشر الآشوريون بشكل رئيس في شمال العراق وسوريا، خاصة في المناطق الممتدة من نينوى في العراق الحالية، وشرق سوريا، مع مراكز مهمة في آشور، نينوى، وأربيل، ومعابدهم في تل عشتار، وخطوط العراق القديمة. فيما سكن الفينيقيون في الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ضمن مراكز رئيسة في مدن تقدمية مثل صور، وصيدا، وبيبلوس (جبيل)، وطرطوس في سوريا الحالية، وأحياء صغيرة في لبنان، مع تحليهم بنفوذ اقتصادي وتجاري كبير عبر البحر المتوسط. أما الآراميون فقد استقروا في مناطق واسعة تمتد من الشمال الشرقي لسوريا، وبادية الشام، وحتى أجزاء من العراق، ولعبوا دوراً مهماً في تشكيل مملكة آرام، وارتبطت مناطقهم بحلب، والرقة، والجزيرة السورية.
نقطة تحول
منذ الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي، بدأت مرحلة جديدة من التغيرات السكانية والدينية، مارست تأثيراً عميقاً على النسيج الاجتماعي للمنطقة. ففي عام 637 م، دخل المسلمون دمشق بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب، حاملين معهم ثورة ديموغرافية وروحية. خاصة أن الفتح الإسلامي أوجد وضعاً جديداً، حيث تابع المسيحيون واليهود حياتهم المعهودة مع تدفق أعداد من المسلمين، متفاعلين معاً على مر الأزمان. إنها بداية المزج الثقافي والديني، التي لحقها تحول تدريجي في أهواء المجتمع وطرائقه، مع استمرارية التقاليد القديمة وظهور مبادئ جديدة في المنطقة.
في القرون التالية، شهدت سوريا موجات من الفتوحات ونهوض الدول، مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وكلها أضافت طبقات جديدة للتركيبة السكانية، من عرب، وتركمان، وكرد، وغيرهم من مختلف الأصول، مشكلين سوريا فسيفساء سوريا تتراقص ألوانها، بروح من التعايش والاختلاف واندماج الخصائص البشرية المختلفة. وهذا ما أكده المؤرخ (فيليب حتي) في كتابه (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين) : “إن رجال الفكر يعتبرون بلاد الشام معلماً للخصائص البشرية”.
تأثير تاريخي:
على مر العصور، رسخت التقاليد والأعراف السورية قيماً سامية من التسامح، والكرم، والأخوّة، خاصة ما يتعلق بقضايا الضيافة والاحترام. فيما شكل الخليط المتنوع مدرسة في تكريس التفاهم والتعايش رغم التحديات والصراعات. وفي عمق هذه المعادلة، تتجذر المبادئ التي تربط السوريين، وهي مبادئ تجمع بين الروح الإسلامية، والمبادئ المسيحية، والعادات العشائرية، وتقاليد المجتمع، حيث يبتعد الجميع عن التعصب، ويعملون على بناء وطن آمن يضم جميع مكوناته. ونورد هنا ما قاله الكاتب الكردي إبراهيم مصطفى كابان في كتابه (المكونات السورية وسبل العيش المشترك) :
“هذه البلاد تحتوي على كنز مجتمعي متعدد، وتركيبة ديموغرافية قل نظيرها، وتنوع ثقافي مميز يمكن جعله طاقة تغني سوريا معرفة وعلماً وقدرة، وتوجهها للمساعدة في عملية إعادة بناء المجتمع والنهوض به لتهيئة الأرضية المناسبة، وصناعة التمازج المجتمعي المرتكز على بنيان التآلف والاتحاد، وتقديمه كنموذج للعيش المشترك، بحكم توفير الخلفية التاريخية لعملية التحولات المطلوبة على أساس تاريخ يعتبر الأقدم في العالم .. ”
فرص
بالرغم من التحديات التي واجهتها سوريا خلال سنوات الحرب، إلا أن روح التنوع والاختلاف لا تزال حيّة، تُعبر عنها الأجيال الجديدة التي تتعلم أن تكون جسراً للحوار والتسامح. فالذاكرة التاريخية الوطنية، التي تربط بين الماضي والحاضر، تُعد مصدر قوة وبهجة لسكانها. مفهوم عززه الكاتب (كابان) بالقول:
“التدرج في بناء هيكلة جديدة للدولة السورية على أنقاض السنوات الماضية والحرب تتطلب منا التعرف إلى مكوناتها العرقية والدينية وحجم التنوع الثقافي عبر بحث ديمغرافي مجتمعي يمكننا من رسم صورة شاملة لعقد اجتماعي يمهد الطريق أمام إعادة اللحمة والتآلف
والشراكة الحقيقية بين الشعوب السورية”.
وفي النهاية، تبقى سوريا بلداً يمزج بين عبق التاريخ ووجدان الحاضر، ووفق إيقاعات التنوع والتعدد يروي حكاية شعبٍ نسيجُه الأمل والتعايش يُعيدُ تعريف الهوية، ويثبت أن الوحدة في الاختلاف ليست شعاراً، بل حقيقة أبدية راسخة.