الحرية – أمين سليم الدريوسي:
في أروقة الأمم المتحدة، حيث تتقاطع مصالح الدول وتُصاغ ملامح السياسات العالمية، برز الحضور السوري هذه المرة مختلفاً، من خلال مشاركة الرئيس أحمد الشرع والتي لن تكون مجرد حضور بروتوكولي، بل إشارة واضحة إلى أن دمشق تدخل مرحلة جديدة، تحمل معها خطاباً يعكس إرادة الاستقلال وإعادة بناء الدور السوري على الساحة الدولية.
لن تكون مشاركة الرئيس الشرع في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حدثاً عادياً في روزنامة الدبلوماسية الدولية، بل هي إعلان عن بداية مرحلة جديدة في مسار سوريا السياسي، فالحضور السوري هذه المرة لم يأتِ في إطار بروتوكولي تقليدي، بل كرسالة واضحة بأن دمشق تسعى إلى إعادة صياغة موقعها في النظام العالمي، وإلى استعادة دورها كفاعل مستقل قادر على مخاطبة العالم من موقع الندية لا التبعية، وفي أروقة نيويورك، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى وتُرسم ملامح السياسات الدولية، يحمل الشرع معه خطاباً يتجاوز حدود الكلمات ليعكس إرادة سياسية في إعادة بناء صورة سوريا وإعادة تثبيت حضورها على الخريطة الدبلوماسية.
رسائل الشرع من قلب الدبلوماسية الدولية
منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى واشنطن، بدا أن الشرع أراد أن يبعث برسائل متعددة الاتجاهات، فقد التقى عدداً من القادة العرب والأجانب، إضافة إلى وزراء خارجية وممثلي بعثات دبلوماسية، في سلسلة لقاءات عكست رغبة سوريا في إعادة بناء شبكة علاقاتها على أسس جديدة، لم يكن الحديث مقتصراً على القضايا الإقليمية الساخنة، بل تطرق أيضاً إلى مرحلة إعادة الإعمار الداخلي، وإلى رؤية سوريا لمستقبلها كدولة ذات سيادة كاملة، بعيدة عن التبعية أو تلقي الأوامر من أي طرف خارجي.
الخطاب الذي يستعد الرئيس الشرع لإلقائه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يمثل ذروة هذه الزيارة، إذ يتوقع أن يتضمن رسائل واضحة إلى الداخل السوري وإلى المجتمع الدولي على حد سواء، فمن جهة، يسعى الشرع إلى طمأنة الشعب السوري بأن مرحلة جديدة قد بدأت، عنوانها الاستقرار وإعادة البناء والانفتاح على العالم. ومن جهة أخرى، يريد أن يضع المجتمع الدولي أمام حقيقة أن سوريا لم تعد ساحة صراع بالوكالة، بل دولة تسعى لاستعادة دورها الطبيعي كجسر بين الشرق والغرب، وكفاعل أساسي في قضايا الأمن الإقليمي والدولي.
إن اختيار نيويورك، عاصمة الدبلوماسية العالمية، ليكون مسرحاً لهذه العودة ليس أمراً عابراً، فالجمعية العامة للأمم المتحدة، بما تمثله من منبر جامع لكل دول العالم، تمنح سوريا فرصة لإعادة تقديم نفسها بصورة مختلفة، لم يعد الحديث عن سوريا مقتصراً على الحرب والأزمات الإنسانية، بل بات هناك خطاب جديد يتحدث عن الإعمار والبناء، عن التنمية، وعن استعادة الدور الحضاري والسياسي الذي لطالما ميزها عبر التاريخ.
العلاقات مع الولايات المتحدة وملف العقوبات
وقد حملت اللقاءات التي عقدها الشرع على هامش الاجتماعات دلالات مهمة، فمع القادة العرب، كان التركيز على إعادة سوريا إلى محيطها الطبيعي، وتعزيز العمل العربي المشترك بعيداً عن الانقسامات التي أضعفت المنطقة لعقود. أما مع القادة الأجانب، فقد كان النقاش منصباً على كيفية فتح صفحة جديدة من العلاقات تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على الإملاءات أو الضغوط. وفي هذا السياق، برزت أيضاً أهمية الحوار مع الولايات المتحدة، حيث طُرح ملف العقوبات المفروضة على سوريا باعتباره عائقاً أساسياً أمام جهود إعادة الإعمار وتحريك عجلة الاقتصاد، وقد شدد الشرع على أن رفع هذه العقوبات ليس مطلباً سورياً فحسب، بل ضرورة إنسانية واقتصادية تتيح للشعب السوري استعادة حياته الطبيعية، وتفتح الباب أمام تعاون دولي أكثر توازناً. هذه اللقاءات، وإن بدت بروتوكولية في ظاهرها، إلا أنها تعكس تحولات أعمق في مقاربة سوريا لعلاقاتها الخارجية، حيث تسعى إلى بناء سياسة متوازنة تتيح لها الاستفادة من الفرص دون الوقوع في فخ الاصطفافات الحادة.
أما في سياق الحديث عن الرسائل التي يحملها خطاب الشرع للعالم يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور أساسية، أولها، أن سوريا عادت لتكون دولة ذات سيادة كاملة، ترفض أي شكل من أشكال الوصاية أو التدخل الخارجي، ثانيها، أن دمشق مستعدة للانخراط في حوار دولي جاد حول القضايا الكبرى، من مكافحة الإرهاب إلى التغير المناخي، مروراً بأزمات الطاقة والأمن الغذائي، وثالثها، أن سوريا ترى في نفسها جسراً للتواصل بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، مستفيدة من موقعها الجغرافي والتاريخي الفريد.
لكن الأهم من كل ذلك هو الرسالة الموجهة إلى الداخل السوري. فخطاب الشرع لا يقتصر على مخاطبة المجتمع الدولي، بل يحمل أيضاً بعداً داخلياً يسعى إلى تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، الحديث عن «سوريا الجديدة» ليس مجرد شعار، بل هو وعد بمرحلة مختلفة، عنوانها إعادة الإعمار، تعزيز المؤسسات، والانفتاح على العالم من موقع الندية لا التبعية، هذه الرسالة، إذا ما اقترنت بخطوات عملية على الأرض، يمكن أن تشكل نقطة تحول في مسار البلاد بعد سنوات من المعاناة.
من الناحية السياسية، تشكل هذه الزيارة اختباراً لقدرة سوريا على إعادة التموضع في النظام الدولي، أما من الناحية الدبلوماسية، فإن مشاركة سوريا في اجتماعات الجمعية العامة تمثل فرصة لإعادة بناء جسور الثقة مع المجتمع الدولي.
اقتصادياً، تحمل الزيارة أيضاً أبعاداً مهمة. فإعادة إعمار سوريا تتطلب استثمارات ضخمة، ولا يمكن تحقيق ذلك من دون انفتاح على العالم. ومن خلال هذه الزيارة، تسعى دمشق إلى إرسال رسالة واضحة مفادها أنها مستعدة لتوفير بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار، وأنها ترى في التعاون الاقتصادي الدولي ركيزة أساسية لبناء مستقبلها.
من العزلة إلى الانفتاح على العالم مجدداً
في المحصلة، يمكن القول إن زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى نيويورك تمثل لحظة مفصلية في مسار سوريا الحديث. فهي ليست مجرد مشاركة في اجتماعات دولية، بل هي إعلان عن عودة سوريا إلى المسرح الدولي كلاعب مستقل يسعى إلى صياغة مستقبله بيده. الخطاب الذي سيلقيه الشرع أمام الجمعية العامة سيحمل رسائل متعددة، لكنه في جوهره يعكس إرادة سوريا في أن تكون دولة ذات سيادة كاملة، منفتحة على العالم، وقادرة على لعب دور فاعل في القضايا الإقليمية والدولية.
إذاً التحديات التي تواجه سوريا لا تزال كبيرة، ولكن الأمل الذي تحمله هذه الزيارة يكمن في أنها تفتح الباب أمام مرحلة جديدة، عنوانها الاستقرار والبناء والانفتاح. وإذا ما نجحت دمشق في ترجمة هذه الرسائل إلى خطوات عملية، فإنها ستكون قد وضعت الأساس لعودة حقيقية إلى المسرح الدولي، ليس كدولة تابعة أو متلقية للأوامر، بل كفاعل مستقل يسعى إلى بناء مستقبل أفضل لشعبه وللمنطقة بأسرها.
بهذا المعنى، فإن وجود الشرع في نيويورك ليس مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هو بداية فصل جديد في تاريخ سوريا، فصل عنوانه العودة إلى الذات، والانفتاح على العالم، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل النظام الدولي، والنجاح في هذه المهمة لن يتحدد بخطاب واحد، ولكن بمسيرة طويلة من العمل الدؤوب والدبلوماسية الذكية. فالعالم الآن ينظر إلى سوريا تحت قيادة الشرع، والسنوات القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه البداية حقاً لمشروع “سوريا الجديدة” الذي يتحدث عنه الجميع، أم إنها مجرد تغيير في الشكل دون الجوهر. الإجابة ستأتي من دمشق نفسها، ومن قدرتها على تحويل الخطاب إلى واقع ملموس للشعب السوري الذي طال انتظاره لسلام حقيقي وازدهار.