الحرية – أمين سليم الدريوسي:
بدعوة رسمية من المملكة العربية السعودية يصل الرئيس أحمد الشرع إلى العاصمة الرياض، حيث يترأس وفداً سورياً رفيع المستوى للمشاركة في النسخة التاسعة من مبادرة مستقبل الاستثمار (FII) عام 2025، وتأتي هذه الزيارة المرتقبة، لتشكل محطة سياسية واقتصادية بالغة الأهمية، تحمل في طياتها رسائل هدفها إعادة رسم موقع سوريا في المشهدين العربي والدولي.
المشاركة السورية المنتظرة في هذا الحدث العالمي لا تعكس مجرد حضور رسمي، بل تؤشر إلى انتقال البلاد من مرحلة الصراع إلى مرحلة الانفتاح والإعمار، وإلى سعيها لتثبيت موقعها كشريك فاعل في النهضة الاقتصادية الإقليمية والتحولات الاستثمارية العالمية.
البعد السياسي– عودة سوريا إلى قلب المشهد العربي
منذ اندلاع الثورة السورية، ظل موقع دمشق في النظام العربي موضع جدل وتباين، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولات متسارعة في مقاربة العواصم العربية، وفي مقدمتها الرياض، تجاه الملف السوري.
اللقاء المرتقب بين الرئيس الشرع وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لا يمكن قراءته إلا في إطار إعادة ترميم الجسور العربية، وتأكيد أن المصير المشترك يفرض تجاوز سنوات القطيعة نحو شراكة استراتيجية.
إن حضور سوريا على منصة “FII”، إلى جانب قادة سياسيين ورؤساء شركات عالمية، يرسل رسالة واضحة، بأن دمشق لم تعد معزولة، بل تعود إلى المسرح الدولي من بوابة الاقتصاد والاستثمار، وليس من بوابة السياسة وحدها، وهذا التحول يعكس وعياً سورياً بأن الشرعية الدولية اليوم تُبنى بقدر ما تُبنى المصانع، وتُستعاد بقدر ما تُستعاد الثقة بالاقتصاد الوطني.

الاقتصاد كمدخل للسياسة
ولأن الاقتصاد يمثل مدخلاً للسياسة فإن الزيارة تحمل أيضاً بعداً اقتصادياً لا يقل أهمية عن السياسة، فمبادرة مستقبل الاستثمار ليست مجرد مؤتمر، بل منصة عالمية تجمع بين رؤوس الأموال، الأفكار المبتكرة، والتوجهات الكبرى للاقتصاد العالمي، ومشاركة الوفد السوري الرفيع المستوى، الذي يضم وزراء وخبراء، تعكس إدراك دمشق أن الإعمار لم يعد خطة على الورق، بل عملية جارية تحتاج إلى شركاء دوليين.
أما اللقاءات المقررة مع كبريات الشركات العالمية والمؤسسات المالية الكبرى تمثل اختباراً جدياً لمدى قدرة سوريا على جذب الاستثمارات النوعية. فالمطلوب ليس فقط ضخ الأموال، بل بناء شراكات استراتيجية في قطاعات البنية التحتية، الطاقة، الصحة، التكنولوجيا، والصناعات المستدامة. هذه القطاعات هي التي ستحدد ملامح “سوريا الجديدة” في العقد القادم.
التحول الرقمي والتنمية المستدامة
ومن المتوقع ان من أبرز الرسائل التي سيحملها خطاب الرئيس الشرع على منصة “FII” تركيزه على التحول الرقمي والطاقة المتجددة وتنمية رأس المال البشري. هذه القضايا ليست شعارات، بل مفاتيح أساسية لأي نهضة اقتصادية معاصرة.
ففي عالم يتسارع فيه سباق التكنولوجيا، لا يمكن لسوريا أن تكتفي بإعادة بناء ما تهدّم، بل عليها أن تبني ما هو جديد: بنية تحتية ذكية، حكومة رقمية، واقتصاد قائم على المعرفة، وهنا تكمن أهمية الشراكات مع الشركات العالمية، التي لا تقدم التمويل فحسب، بل تنقل الخبرات والتقنيات الحديثة.
أما التنمية المستدامة، فهي البوصلة التي تضمن أن الإعمار لا يكون مجرد إعادة إنتاج للماضي، بل تأسيس لمستقبل يوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، وبين السيادة الوطنية والانفتاح على العالم.
البعد الإقليمي– تكامل لا تنافس
زيارة الرئيس الشرع إلى الرياض تأتي أيضاً في سياق إقليمي أوسع. فالمملكة العربية السعودية تسعى من خلال رؤيتها 2030 إلى أن تكون مركزاً للاستثمار العالمي، فيما تسعى سوريا إلى أن تكون جزءاً من هذه النهضة لا على هامشها.
والتكامل بين دمشق والرياض يمكن أن يشكل نموذجاً جديداً للعلاقات العربية، شراكة تقوم على المصالح المتبادلة، لا على المساعدات المشروطة، فكل استثمار يدخل سوريا يعزز استقرارها الداخلي، وكل استقرار في سوريا ينعكس إيجاباً على الأمن الإقليمي، بهذا المعنى، تصبح التنمية الاقتصادية أداة للسياسة، وجسراً للتقارب العربي.
من العزلة إلى المبادرة
وأهم ما يميز هذه الزيارة أنها تعكس انتقال سوريا من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، فدمشق لم تعد تنتظر ما يقرره الآخرون بشأنها، بل تذهب بنفسها إلى المنصات الدولية لتعرض رؤيتها وتطرح مشاريعها.
إن مشاركة سوريا في منصة “FII 2025” تؤكد أن البلاد لم تعد مجرد ملف على طاولة المفاوضات، بل لاعب يسعى إلى صياغة مستقبله بيده، وهذا التحول يحمل دلالات عميقة، فالدولة التي عانت من الحرب والعقوبات تعلن اليوم أنها قادرة على النهوض، وأنها تملك من الموارد البشرية والجغرافية ما يجعلها شريكاً لا يمكن تجاهله.
نحو عقد اقتصادي جديد
في النهاية، زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الرياض ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل إعلان عن بداية عقد اقتصادي جديد لسوريا. عقد يقوم على الانفتاح، الشراكة، والاستثمار في المستقبل.
السياسة والاقتصاد هنا يتداخلان: فكل لقاء مع شركة عالمية هو رسالة سياسية بقدر ما هو فرصة اقتصادية، وكل مشروع إعمار هو أيضاً مشروع لإعادة بناء الثقة بين سوريا والعالم.
إنها لحظة فارقة، فعودة سوريا إلى العالم لا كمتلقٍ للمساعدات، بل كفاعل يسهم في صياغة مسيرة التقدم. والرياض، بما تمثله من ثقل إقليمي ودولي، هي البوابة التي تعبر منها دمشق إلى هذه المرحلة الجديدة.