الحرّية- هبا علي أحمد:
تحولات عديدة شهدتها سوريا تركت أثرها في مختلف الصعد ومناحي الحياة اليومية للمواطنين، لترسم مشهداً متكاملاً، ويُمكن لسوريا أن تستفيد من مجمل التحولات لبناء مجتمع أكثر استقراراً وازدهاراً عبر المشاركة والتعددية، فعندما تُقدم قراءة أو فكرة نقدية للواقع القائم، هذا لا يعني تعقب الأخطاء وإفشال التجربة، بقدر ما يعني تسليط الضوء على ثغرات يُمكن تجاوزها للمشاركة في بناء سوريا كما تستحق وكما يستحق أبناؤها.
– تحولات سياسية
كان لافتاً سرعة التحولات السياسية التي شهدتها سوريا الجديدة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وربما أبرزها وأكثرها أهمية اتفاق الحكومة مع قوات سوريا الديمقراطية «قسد» بما يتركه ذلك من تداعيات إيجابية على يوميات المواطن المعيشية والاقتصادية فيما إذ تم تطبيقه والالتزام به.
وإذ تحاول الإدارة الجديدة إرساء الاستقرار في الحياة السياسية الداخلية عبر مجموعة حوارات ولقاءات تصب في الصالح العام، فإنه على التوازي شرّعت أبوابها للخارج في سياق البحث عن علاقات تعاون وتبادل تصب في الصالح العام للبلد أيضاً، وأبرزها العمل حثيثاً على ملف رفع العقوبات كليّاً الأمر الذي من شأنه، إن تم، أن تتخلص البلاد والمواطنون من عبءٍ أثقل كاهل حياتهم الاقتصادية.
– التحولات الاقتصادية
يستعرض الأكاديمي والاقتصادي والمستشار الدكتور زياد عربش، في تصريح لـ”الحرّية” التحولات الاقتصادية التي شهدتها سوريا مؤخراً، مُقدماً صورة شاملة لما مر به الاقتصاد السوري سابقاً وصولاً إلى اليوم، فيقول:
مرّ الاقتصاد السوري بمنعطف كبير ومفصلي ومازال للآن، ففي العقود السابقة كان الاقتصاد يسجل ككل، جملة من تراكم الاختلالات البنيوية من انكسار النموذج التنموي منذ ٢٠١١ والذي بالأصل كان يعاني من تشوهات قطاعية عديدة زادت حدتها مؤخراً نتيجة الممارسات الملتبسة وزيادة الحصار على المنافذ البرية، إلى جانب تآكل القدرة على الإنتاج من القطاعات الحقيقية (الزراعة، الصناعة التحويلية)، ومع اشتداد التباين المناطقي وبين المحليات وتقطع أوصال البلاد ومتابعة قوات قسد السيطرة على موارد إنتاج الناتج المحلي الإجمالي (النفط والغاز والمياه وسلع استراتيجية عديدة) وأيضاً في الشمال.. مع تدهور سعر الصرف وعدم اتخاذ أي تدبير لمنع انهيار الاقتصاد الذي كان سينهار حكماً..
نتيجة تشابك الشأن الاقتصادي بالوضع العام وعدم رفع العقوبات لم يوضع مسار الاقتصاد على السكة الصحيحة
– مرحلة مخاض
ومع الانطلاق نحو سوريا الجديدة كان من الطبيعي أن يمر الاقتصاد بمرحلة مخاض وبآثار ليست بمجملها إبجابية، فتم تفكيك الصورة دون إيجاد بديل، وهذا الأمر طبيعي في هكذا تجارب (ينخفض الناتج ريثما يجد الاقتصاد محركات نموه التقليدية والجديدة) لكن بالحالة السورية ونتيجة تشابك الشأن الاقتصادي بالوضع العام- بما فيها الاستقرار وعدم رفع العقوبات إلا جزئياً ومرحلياً ومطامع العديد من اللاعبين ورغم مساعدة عدد من الدول العربية وتركيا- لم يوضع مسار الاقتصاد على السكة الصحيحة، حيث تم فتح الحدود وبدون جمارك وبالتالي نزيف القطع الأجنبي وإغراق السوق ببضائع تهدد النسيج الصناعي والإنتاج الزراعي.
وأضاف عربش: صحيح كان هناك بطالة مقنعة كبيرة وتوظيف وهمي، لكن العمل كان يجب أن ينصب على تعزيز دور المؤسسات وليس تقزيمها، لافتاً إلى أن المجتمع بحاجة إليها ونتحدث عن مئات الآلاف والملايين من السوريين وخاصة المهجرين بحاجة لمعالجة عشرات آلاف المعاقين والحاجة لمزيد من المؤسسات التربوية والتعليمية ومؤسسات الدمج.. فأصبحنا نرى جيلاً من الشباب يمارسون مهناً وأعمالاً خارج القنوات الرسمية وهم بحاجة للإعالة والتأهيل المهني، بالإضافة إلى بروز أعناق زجاجات عديدة والتي ليس أقلها الطاقة والبنيات التحتية والتي لم تعالج بالشكل الصحيح، فليس من المعقول زيادة ساعات التوليد من دون التصدي الجدي للهدر وليس عبر تصريحات من دون مؤشرات، كما ليس من المنطقي أبداً غياب سياسة مصرفية غير حبس السيولة أو التصريح بالخصخصة من دون دراسة تعرض على الجميع.
– التأسيس للمرحلة القادمة
يوضح الدكتور عربش أن السؤال الكلي يتعلق بإنتاج الثروة وتوزيعها، وإعادة توزيعها، والتي هي نتاج عقد اجتماعي- مواطني وليس (ورغم مشروعيته) منعكساً عفوياً لحالة متأزمة تتطلب نهجاً اقتصادياً مُحكم الصياغة، أي من خلال آليات الدعم والضرائب والسياسات المصرفية والاستثمارية والصناعية والتجارية والتوجيه الاقتصادي لمسألة التسعير ضمن تكامل كل هذه المكونات وبصياغة خطة اقتصادية إنقاذية يمكن وضع خريطة الطريق للأشهر القادمة.
بجميع الأحوال يجب النظر الآن إلى مؤشر واحد ألا وهو البيان الحكومي الذي من المفترض أن يبتعد عن “اليّنبُغيات واللابُديات .. ينبغي-لابد” ليتضمن المعالجات المطلوبة لكل أعناق الزجاجات وبمؤشرات زمنية واضحة مع آليات التتبع والمحاسبة، فسوريا تستحق لملمة جراحها.
التحسن في الحالة النفسية والاجتماعية انعكس إيجابياً على الحياة ليومية والتفاعلات الاجتماعية
– تحولات اجتماعية
أما من أبرز التحولات الاجتماعية التي شهدتها سوريا خلال الثلاثة أشهر الماضية وأثرت بشكل ملحوظ على حياة المواطنين اليومية، فتعرضها الباحثة الاجتماعية غدران نجم، في عدة نقاط، من بينها التحسن الملحوظ في الحالة النفسية والاجتماعية وشياع شعور عام بالارتياح، ما انعكس إيجابياً على الحياة اليومية والتفاعلات الاجتماعية، بالإضافة لتعزيز الثقة بين الفئات المختلفة بمعنى هناك جهود واضحة لإعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمعات المحلي، خاصة بين العائدين والمقيمين، ما يساهم في تقليل الانقسامات الاجتماعية والسياسية، لافتة إلى أنه رغم أن هذا الشيء ليس شاملاً لكنه في نفس الوقت وبشكل عام موجود، بمعنى أن هناك نماذج ومبادرات أهلية بدأت تظهر لتعزيز الاندماج بين النازحين والعائدين والمقيمين.
وتابعت: التغيرات الكبيرة وإعادة التشكيل في المواقف الاجتماعية والسياسية، حيث أعاد العديد من المواطنين تقييم مواقفهم السابقة والتكيف مع الواقع الجديد، ما أثر على التفاعلات اليومية والعلاقات بين الأفراد، وأيضاً من الملاحظ التحديات الاقتصادية المستمرة، فعلى الرغم من التغيرات السياسية، لا تزال البلاد تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، مع شُح السيولة و مواجهة الإدارة الجديدة لتحديات كبيرة في دفع رواتب موظفي القطاع العام، ما يثير قلقاً بشأن المستقبل الوظيفي للكثيرين.
كما أن وجود واستمرار الاحتجاجات والمطالب الشعبية بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، يشير إلى استمرار الحراك الشعبي لتحقيق مطالب اجتماعية محددة، و هذا أمر رغم أهميته إلا أنه على الأقل يعطينا مؤشراً على أن صوت الشعب فعلاً مسموع وبات له قدرة وتأثير.
– تقييم التحولات
وقدمت الباحثة تقييماً شخصياً لهذه التحولات، مُشيرة إلى التحسن في الحالة النفسية والاجتماعية لدى غالبية أفراد الشعب ما يعزز من تماسك المجتمع ويخلق بيئة مناسبة للبناء والتطوير خلال الفترة المستقبلية القادمة، كما أن استمرار الاحتجاجات يشير إلى ضرورة معالجة القضايا المعيشية والاقتصادية بشكل عاجل لتفادي تفاقم الأوضاع.
وبالرغم من كل التحديات، يسود تفاؤل حذر بين السوريين، مع إدراكهم لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم لبناء مجتمع جديد يتسم بالتسامح والتعايش المشترك.
– ترجمة التحولات
واللافت أن تلك التحولات يُمكن ترجمتها لتحقيق نهضة اجتماعية عبر تعزيز الحوار الوطني المجتمعي وإشراك جميع فئات المجتمع في حوارات مفتوحة لتحديد الأولويات ووضع خطط تنموية تعكس تطلعات المواطنين في العدالة والمساواة ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، يُضاف إليه الاستثمار في التعليم والثقافة لتشكيل جيل جديد يحمل قيم العدالة والمساواة والحرية، مع دعم المبادرات المحلية التي تسعى إلى تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، حسب نجم.
تأسيس مؤسسات حكومية تعتمد على الشفافية والمساءلة وتعزز سيادة القانون لضمان حقوق المواطنين
وأيضاً من المهم تحقيق إصلاحات اقتصادية عاجلة والتي تتطلب تنفيذ سياسات اقتصادية تدعم الاستقرار، مثل خلق فرص عمل، دعم المشاريع الصغيرة، وتحسين الخدمات الأساسية، إضافة لإعادة بناء مؤسسات قوية وشفافة، بحيث يتم تأسيس مؤسسات حكومية تعتمد على الشفافية والمساءلة، وتعزز سيادة القانون لضمان حقوق المواطنين، مع أهمية الاستفادة من الدعم الدولي وتوظيف المساعدات الدولية لإعادة بناء البنية التحتية وتطوير القطاعات الحيوية، مع ضمان توجيه هذه المساعدات بما يخدم مصلحة الشعب السوري.
ومن خلال التركيز على الخطوات سالفة الذكر يمكن لسوريا أن تستفيد من التحولات الاجتماعية الحالية لبناء مجتمع أكثر استقراراً وازدهاراً مع تأكيد أن الحكومة الحالية تواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية السياسية والاجتماعية والدينية والطائفية في البلاد، ما يتطلب بناء مؤسسات سياسية واجتماعية قوية تحقق العدالة الاجتماعية وتضمن الفصل بين السلطات.