الحرية – د. رحيم هادي الشمخي:
بالنسبة للعراق، هناك دولتان لا يمكن تجاهل أي تطور فيهما، حتى لو كان هامشياً، وهما سوريا وإيران. وهذا ينسحب على المستويين الداخلي والخارجي، بمعنى ما يحدث داخلهما وخارجهما، إضافة إلى ما يحدث بينهما من جهة، وبينهما وبين العراق من جهة ثانية، وعندما يكون العراق في قلب أخطر الأحداث التي تمر بها المنطقة، خصوصاً دولها العربية، وبالأخص سوريا وإيران، فإن الترقب يتسيد الساحة، فتغدو كل شاردة وواردة محل تركيز شديد، وفي جزء كبير منها محل قلق شديد، ومن هنا تأتي دبلوماسية العراق شديدة الحذر والتأني، وضمنها حالة انتظار محددة لما ستفرزه الأحداث على أمل ألا تطول مساراتها وبما ينعكس مخاطر متزايدة على البلاد.
على الساحة العراقية، لا يمكن فصل سوريا عن إيران، كلاهما مرتبطان متداخلان بصورة معقدة، بل عنيفة في أحيان كثيرة، وبما يرسم مشهداً داخلياً يلازمه التوتر والتشدد والنزعات العصبية، وهذا الحال ينعكس مباشرة على العلاقات مع كلا البلدين، سوريا والعراق، وبين البلدين نفسهما، إذ إن العراق يمثل حالة دائمة من الخلافات المستفحلة.
مع كل زيارة لمسؤول أو وفد عراقي لسوريا ينقسم العراق إلى ساحتين متناحرتين بصورة خطيرة جداً، والحال نفسه بالنسبة لكل ما يتعلق بإيران ودورها في العراق. ورغم أن القيادة العراقية تسعى حثيثاً لترتيب العلاقات مع سوريا كأولوية ملحة إلا أنها تواجه عوائق كبيرة جداً مما يسمى التيار المحسوب على إيران وهو ليس بالتيار قليل العدد أو التأثير.
بالمقابل تسعى العراق إلى علاقات أكثر توازناً مع إيران، لكن التيار المعادي لإيران لمصلحة علاقات أكثر متانة مع الدول العربية يقف أيضاَ عائقاً، وهو بدوره ليس بالتيار قليل العدد أو التأثير. وهو وإن كان يرى أن للعراق مصلحة استراتيجية في الابتعاد عن إيران فإنه يعمد إلى مقاربة ذلك بصورة خاطئة.
بالنتيجة فإن كلا التيارين يقفان عائقاً في وجه خروج العراق من دائرة التحديات والضغوط في وقت يحتاج إلى التكاتف وتحقيق سياسات مختلفة لا تجعله ضمن دائرة الخاسرين الرئيسيين في ظل خريطة جيو- اقتصادية تتشكل في المنطقة.
المهمة ليست سهلة. سوريا وإيران دولتان رئيسيتان في الصراع على هذه الخريطة، وكلاهما تسعيان لتحقيق دور مركزي فيها، ولأجل ذلك قررتا تغيير كامل النهج والسياسات، فلماذا لا يفعل العراق الأمر نفسه، ولماذا لا يكون العراقيون على مستوى التحديات والمخاطر القائمة واللاحقة وهم يعرفونها جيداً؟
بالأمس عندما أعلنت واشنطن عن مخططات جديدة لتواجدها العسكري في سوريا، عبر تقليص عدد القوات وإغلاق بعض القواعد، وصلت مخاوف العراق أقصاها لما سيكون عليه حال الأمن والحدود، والحاجة الماسة للتنسيق مع سوريا، ومع الأميركي نفسه، ومطالبته بالبقاء في سوريا كضرورة أمنية عراقية.. مع ذلك فإن هذه المخاوف سقطت دفعة واحدة وعاد العراقيون إلى التقوقع ضمن حالة الانقسام العنيف حيال زيارة السياسي عزت الشابندر إلى العراق ولقائه الرئيس أحمد الشرع، وهي الزيارة التي وصفت بالخطوة الذكية لحكومة محمد شياع السوداني وأنها زيارة جاءت في وقتها طالما أن العراقيين متخوفون من الانسحاب الأميركي من سوريا إلى هذه الدرجة.. ومتخوفون من مجمل التطورات المتعلقة بسوريا، بما في ذلك عربياً، وهم يتابعون حالة الانفتاح الدولي عليها، ويستشعرون أنها ليست في مصلحتهم إذا هي أفضت إلى دفعهم خارج الأولويات السورية.
على خط طهران، يتابع العراق بالقلق نفسه التطورات الإيرانية، ويرى أنها بمجملها ليست في مصلحته، بمعنى أن إيران تسعى إلى احتواء الضغوط الإقليمية والدولية (إضافة إلى خسارة سوريا) على حساب الجميع، بما في ذلك حلفائها العراقيين. لا شك أن إيران تمر بأصعب مراحلها وأشدها خطراً، وهي تسعى من جديد لكسب أوراق قوة إقليمية بمواجهة الضغوط الدولية خصوصاً الأميركية، وهي وإن كانت تواصل مع واشنطن عقد جولات التفاوض، إلا أنها بين كل جولة وأخرى تواصل سعيها لتحصين مواقفها إقليمياً، وعربياً. لنتابع كيف أن إيران تسعى لتعويض خسارتها الهائلة في سورية عبر كسب مصر، أيضاً تسعى لتعويض مكانتها في العراق التي لم تعد كسابق عهدها منذ خسارتها سوريا، عبر علاقة مهاودة جداً مع الدول الخليجية. حتى على المستوى الإقليمي، عندما نتحدث عن تركيا (وكذلك روسيا) يمكن اعتبار إيران من ضمن الخاسرين، ومع ذلك هي تسعى للتعويض، وترى أنها ما زالت قادرة على ذلك.
حتى الأمس القريب لم يكن لأحد أن يتوقع أن تغير إيران كامل السياسات تجاه مصر رغم أنها كانت تسعى على الدوام لتحسين هذه العلاقات معها ولكن من دون اتخاذ قرارات كبيرة. التطورات في سوريا والمنطقة أجبرت إيران على الذهاب إلى أبعد مدى لكسب مصر، مستفيدة من ضغوط كبيرة تتعرض لها مصر في هذه المرحلة من الأميركي ومن الإسرائيلي.
أمس الأربعاء اتخذت إيران قراراً كبيراً في سبيل ذلك، مُعلنة تغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي في العاصمة طهران. وكانت إيران أطلقته تكريماً للاسلامبولي المتهم الرئيسي في عملية اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في عام 1981. وانعكست هذه التسمية أزمة هائلة ما بين البلدين وتجميداً للعلاقات استمر لأربعة عقود.
تدرك إيران جيداً الثقل الإقليمي لمصر على خريطة توازن القوى في الشرق الأوسط. وتدرك مصر بدورها أن إيران لم تخسر كامل أوراقها بعد، ويأتي اللقاء الذي جمع بين وزير خارجيتها بدر عبد العاطي ونظيره الإيراني عباس عراقجي أمس بالتزامن مع قرار تغيير تسمية شارع الإسلامبولي، كرسالة واضحة جداً لمن يهمه الأمر في المنطقة، ولأميركا على وجه التحديد. وجاء اللقاء بينهما على هامش منتدى أوسلو للسلام في النرويج، وضم أيضاً وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، الذي تتوسط بلاده في المفاوضات ما بين طهران وواشنطن، ومن المتوقع أن تعقد جولة جديدة لها في العاصمة العمانية مسقط الأحد المقبل.
في العراق لا ينظرون بعين الرضا للتقارب المصري الإيراني، ويرونه أنه تقارب خطر على مصر والمنطقة وينذر بعواقب في ظل الاختلال الرهيب في موازين القوى، وفي ظل استمرار مخاوف المنطقة من الأجندات الإيرانية.
قلة عراقية ترى في التقارب الإيراني المصري مصلحة للجانبين وللمنطقة، ويرون أنه من غير المنطقي الوقوف ضده لمجرد وجود أجندة لإيران، فيما كل الدول لها أجندات وأهداف، بما في ذلك مصر والعراق.
من هنا، لا بد من تغيير الأجندات والتحالفات، والخروج من دائرة الانقسامات، حيث العراق هو المتضرر الأكبر. ما يحتاجه العراق اليوم هو التحرك بسرعة أكبر على مستوى العلاقات مع سوريا بالدرجة ألأولى، ثم مع إيران طالما أنه مرتبط مصيرياً بهما. وإذا كانت التطورات التي تشهدها المنطقة توصف بأنها جذرية ومفصلية فإن التطورات اللاحقة قد تكون ساحقة، ولا بد أن يكون العراق مستعداً كما هو حال الجميع في المنطقة.
سوريا وإيران وبينهما العراق.. المعادلة المستعصية على كل تفاهم أو تسوية.. إلى متى؟

Leave a Comment
Leave a Comment