الحرية_أمين سليم الدريوسي:
في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا، تتجه البلاد نحو مرحلة جديدة تتجاوز فيها إرث الماضي المثقل بالتحديات، وتفتح أبوابها أمام رؤى سياسية واقتصادية أكثر توازناً. وفي هذا السياق، تكتسب زيارة الوفد الروسي الرفيع المستوى إلى دمشق أهمية استثنائية، ليس فقط من حيث التوقيت، بل من حيث الرسائل التي تحملها، والتي قد تعيد رسم ملامح العلاقة بين البلدين على أسس جديدة.
زيارة تتجاوز البروتوكول
اللقاء لا يمثل مجرد حدث دبلوماسي، بل يفتح الباب أمام نقاشات معمقة حول القضايا السياسية والاقتصادية، وصولاً إلى ملف إعادة الإعمار، الذي يمثل أولوية قصوى للقيادة السورية. فهل تحمل هذه الزيارة بشائر تحول نوعي في العلاقات السورية- الروسية؟ وهل ستضع أسساً جديدة لشراكة قائمة على الاحترام المتبادل، والشفافية، والاعتراف الكامل بسيادة سوريا ووحدة أراضيها؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الغوص في تفاصيل الزيارة، وتحليل أبعادها المتعددة.
رؤية بعيدة عن الاصطفافات الضيقة
مع طيّ صفحة الماضي، الذي شهد تحديات وصعوبات، تسعى دمشق إلى بناء علاقات جديدة مع حلفائها، تقوم على أسس متينة ومتوازنة، ومع انتهاء الحقبة التي سادت في عهد الأسد، تسعى الحكومة السورية إلى رسم مسار جديد للبلاد، يعتمد على رؤية واضحة، تتجاوز الاصطفافات الضيقة، وتفتح الباب أمام انفتاح متوازن مع الشرق والغرب، في إطار من السيادة والكرامة الوطنية، وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عندما قال إن “سوريا الجديدة طوت صفحة المراوغة والإنكار”، مشدداً على أن أي تعاون خارجي يجب أن يُبنى على أساس احترام السيادة الوطنية وخدمة مصالح الشعب السوري، مضيفاً في تصريح لافت: إن “الإدارة السورية ورثت من النظام السابق ملفات ثقيلة، أبرزها الأسلحة الكيميائية التي شوهت صورة سوريا عالمياً، ونحن نعمل على تصحيح هذا المسار بكل شفافية”.
بناء شراكة متوازنة
ولطالما تؤكد الحكومة السورية التزامها بمراجعة وإعادة تقييم الاتفاقيات التي أُبرمت في الماضي، والتي شابها الكثير من الغموض وتعارضت مع المصلحة الوطنية، مشددة على أن أي تعاون مستقبلي سيُعاد ضبطه بما يخدم مصلحة الشعب السوري أولاً وأخيراً.
وقد عبّر نائب رئيس الوزراء الروسي ألكساندر نوفاك عن تفهم بلاده لهذا التوجه، قائلاً: “روسيا وسوريا تدخلان مرحلة تاريخية جديدة من العلاقات، ستُبنى على أساس الاحترام المتبادل”، مضيفاً: موسكو تدعم مساراً قائماً على الشراكة المتوازنة والمصالح المشتركة، وتولي اهتماماً خاصاً للزيارة المرتقبة للرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، والتي من المتوقع أن تكرّس هذا التحول النوعي.
من التحالف إلى إعادة التأسيس
تعتبر روسيا من أبرز حلفاء سوريا منذ عهد الاتحاد السوفييتي، وقد لعبت دوراً محورياً في دعم النظام خلال سنوات الحرب، لكن مع دخول سوريا مرحلة جديدة، هناك سؤال يطرح نفسه بقوة: هل ستشهد العلاقات السورية- الروسية تحولاً نوعياً؟.. المؤشرات السياسية والاقتصادية تدل على أن العلاقة ستُبنى على أسس جديدة، تتجاوز شوائب الماضي، وتراعي المصالح المتبادلة بعيداً عن منطق التبعية أو الاصطفاف.
فسوريا مع روسيا ترتبطان بعلاقات تاريخية وطيدة، قائمة على التعاون في مختلف المجالات. وعلى الرغم من التحديات التي واجهت سوريا في السنوات الأخيرة، ظلّت روسيا داعماً رئيسياً لها، والآن، ومع طيّ صفحة الماضي، تسعى دمشق إلى بناء علاقات جديدة، تقوم على أسس أكثر متانةً، وتراعي المصالح المشتركة للبلدين.
وقد أشار الشيباني إلى أن “دمشق تبحث عن شركاء صادقين، لا ممولين مشروطين”، في إشارة إلى رغبة سوريا في بناء علاقات متكافئة لا تخضع للابتزاز السياسي أو الاقتصادي.
السياسة والاقتصاد والإعمار
لا تقتصر أجندة زيارة الوفد الروسي إلى دمشق على مجرد لقاءات بروتوكولية، بل تتعدى ذلك لتشمل نقاشات معمقة حول مجموعة واسعة من القضايا التي تهم البلدين، وتعكس رؤيتهما المشتركة للمستقبل. وفي مقدمة هذه القضايا، تبرز الجوانب السياسية، حيث من المتوقع أن يتم بحث التطورات السياسية الإقليمية والدولية، بهدف تعزيز التنسيق في المحافل الدولية، وتوحيد المواقف في مواجهة التحديات المشتركة. هذا التنسيق لا يقتصر على القضايا الثنائية، بل يمتد ليشمل التعاون في مواجهة القوى والأجندات التي تهدد استقرار المنطقة، وتعرقل مسيرة السلام. وقد صرّح الشيباني بهذا الصدد: “الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تمثل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، والتنسيق مع موسكو في هذا الملف بات ضرورة استراتيجية”.
وكونه لا يمكن فصل الجانب السياسي عن الجانب الاقتصادي، فمن المتوقع أن تشمل المباحثات أيضاً مناقشة التعاون الاقتصادي بين البلدين، وتعزيز الاستثمار والتجارة، هذا التعاون ضروري لدعم الاقتصاد السوري، وتخفيف الأعباء عن المواطنين، وخلق فرص عمل.
وقد أشار نوفاك إلى أن “الاجتماع ناقش اتجاهات مهمة للتعاون الصناعي”، ما يعكس رغبة روسية في أن تكون جزءاً من عملية إعادة الإعمار، ليس فقط كممول، بل كشريك استراتيجي. كما أكد أن “العلاقة بين الشعبين يجب أن تستمر في النمو لما فيه خير البلدين”، في تعبير عن التزام موسكو بدعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في سوريا.
وتبقى الأولوية القصوى لملف إعادة الإعمار، وهو المحور الأساسي الذي تدور حوله جميع الجهود. هذه القضية لا تمثل مجرد مشروع اقتصادي، فبعد سنوات الحرب، تحتاج سوريا إلى إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، وتأمين فرص العمل للسوريين. ومن خلال هذه المناقشات، يسعى الجانبان إلى تحديد آليات التعاون، ووضع الخطط اللازمة لتحقيق هذا الهدف السامي. وسيتم تقييم الشراكات، بما فيها الشركات الروسية، على أساس مساهمتها في تحقيق هذه الأهداف، ودعم الاقتصاد الوطني، وستُعطى الأولوية للمشاريع التي تخفف الأعباء المالية، وتخلق فرصاً حقيقية للسوريين.
شراكة متوازنة
في المحصلة، لا يمكن اعتبار زيارة الوفد الروسي مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هي مؤشر على بداية مرحلة جديدة في العلاقات السورية- الروسية، تقوم على مراجعة الماضي، وتأسيس شراكة أكثر توازناً وشفافية، سوريا الجديدة، كما وصفها الوزير الشيباني، تسعى إلى بناء علاقات قائمة على السيادة والعدالة والمصلحة المشتركة، وهي رؤية يبدو أن موسكو مستعدة لملاقاتها بخطوات عملية، ما قد يفتح الباب أمام تحولات نوعية في المشهد الإقليمي بأسره.