سوريون في البرازيل… تحويلُ المنفى إلى وطن!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:

أصبحت كلمة “سيريو” البرتغاليّة (Sírio) تدل على السوريين مثلما كانت كلمة ليبانيز (libanês) تشير إلى المهاجرين اللبنانيين الذين وصلوا معاً إلى الموانئ البرازيليّة بعد سفر طويل في البحر هرباً من عدم الاستقرار في سوريا ولبنان في القرن التاسع عشر.
لكنهم يمتلكون جيناتٍ حضارية مكّنتهم ليس فقط من العيش في المجتمع البرازيلي؛ بل والاندماج هناك إلى درجة أصبحوا يعدون أنفسهم “برازيليين” أكثر من سكان البلد! وإلى جانب ورشاتِ المشغولاتِ اليدوية والدكاكين التجارية التي باعوا فيها المنسوجات القطنية والصوفية السورية… أسسوا نواديَ ثقافية وموسيقية يناقشون فيها الهم القومي لبلادهم وأفكار القرن التاسع عشر عن العروبة، والتخلص من الاحتلالات المتعاقبة، وصولاً إلى حركات التحرر وأسئلة النهضة.

مواطنون وليسَ “مهاجرين”!

أذكر أنني قرأت كثيراً عن حكايات السوريين في أمريكا اللاتينية في روايات غابرييل ماركيز وجورج أمّادو وإيزابيل الليندي بأنهم لم يكونوا مجرد مهاجرين يقضون أوقاتهم في لعب طاولة الزهر والبلياردو وتدخين التبغ والنارجيلة والقعود في “شارع العرب” أو ما كان يُسمّى “شارع التوركو” نسبةً إلى المهاجرين الأتراك، أو مجرد بائعين جوّالين و”عتّالين” في المرافئ والموانئ… إنما كانوا مشاركين في صنع نسيج الحياة العامة في دول أمريكا اللاتينية كما لو أنهم “مواطنون” أصليون! بل كانوا مشاكسين لدرجة أنهم أسسوا أيضاً صحفاً ومطبوعاتٍ تتضمن مقالات نقدية للحياة السياسية والتجمعات الشعرية والأدبية، منها: “الأفكار” لسعيد أبو جمرة، و”أبو الهول” لشكري الكوري، و”المفكر الحر” لجورج حدّاد، و”الفرائض” لإبراهيم فرح و”المنظر” لنعوم لبكي.
وبحسب دراسة للباحثة ستايسي فاهرينتولد (قسم التاريخ/جامعة كاليفورنيا، ترجمة دلير يوسف) وبتصرّف شديد ومختصر من تلك الدراسة الطويلة، نجدُ كيف كان السوريون في ساوباولو عاصمة البرازيل فاعلينَ ومؤثرين ونشطاء في الحياة الاجتماعية والثقافية هناك، وكيف كان “نادي حمص” مثلاً لمؤسسه جورج أطلس/ناشرٌ من مدينة حمص (وهو أحد الأندية الثقافية إلى جوار تلك الأندية اللبنانية مثل “نادي زحلة” الشهير) مساحةً للحفاظ على حركة الاستقلال الوطني من السلطنة العثمانية، وبعد وفاته تابع مرتادو النادي مسيرته في الحفاظ على روح الفكرة التي أنشئ من أجلها وكانوا يقولون: “بالإضافة إلى كوننا برازيليين، نحن نحاول الحفاظ على شعلة اللغة العربيّة والعروبة حيّة”!
هكذا كان “نادي حمص” إذاً مكتبةً وتجمّعاً لقراءة الصحف والدوريات العربيّة والنقاشات الحامية التي عزّزت الروابط العميقة مع الوطن وأسهمت في نشر الإنتاج الأدبي السوري في المهجر.

“كرجيّة حدّاد” و”ساعة حمص الجديدة”!

أثناء بحثي عن تلك التمازجات الحضارية الثقافية بين سوريا والبرازيل، وقعت على حكاية طريفة ومهمة عن السيدة “كرجية حداد” وهي مغتربة سورية من مدينة حمص، عاشت حياتها في مدينة “ساو باولو” البرازيلية، وعندما زارت سوريا أول مرة عام 1951 برفقة السفير السوري في البرازيل الشاعر الكبير “عُمر أبو ريشة”، وبالإضافة إلى التبرعات العديدة التي قامت بها لصالح بناء مدارس ودور أيتام وأقسام من كليات جامعية مثل كلية الطب بدمشق، يُذكر أنها تبرعت لبناء نصبٍ تذكاريٍّ تعلوه ساعةٌ ضخمةٌ؛ وهو ما يعرف اليوم بـ”ساعة حمص الجديدة” وقد كانت تُعرف بـ”ساعة كرجيّة حدّاد”، وبقيت رمزاً لمدينة حمص العديّة حتى اليوم.
ما قامت به السيدة كرجية حداد ليس مجردَ فعلٍ خيريٍّ من مغتربةٍ تجاه بلدها الأم، بل هو دليلٌ على أن السوريين صنّاع حضارة أينما حلّوا وارتحلوا، وإشارةٌ إلى أن الغربةَ بهمّة المخلصين تتحولُ إلى وطن، وأن الوطنَ بغيرهم يُصبحُ غربة.

Leave a Comment
آخر الأخبار