الحرية – نهلة أبو تك:
في قلب مدينة اللاذقية القديمة، يظل سوق المقبي الأثري شاهداً على تاريخ تجاري واجتماعي طويل، حيث تتعانق حجارة الماضي مع حركة الحاضر في مشهد يختصر هوية المدينة. هنا تختلط رائحة التوابل بأصوات الخطى على الحجارة العتيقة، لتبقى قببه الحجرية وأزقته الضيقة مرآة لروح الشرق وأسواقه القديمة.
سوق يقاوم النسيان
يمتد السوق المعروف شعبياً بالبازار على مساحة واسعة تضم مئات المحال التي تتنوع بين الأقمشة، الأحذية، المواد الغذائية والحرف اليدوية خمسة أبواب رئيسية تربطه بساحة البلدية وشارع هنانو وسوق الصاغة وساحة أوغاريت ما يجعله قلباً نابضاً في نسيج المدينة القديمة.
ورغم التحولات الاجتماعية والاقتصادية ما يزال المقبي محتفظاً بقناطره وقبابه الحجرية في مقاومة واضحة لزحف النسيان.
حكاية مزدوجة
لم يكن المقبي مجرد مركز بيع بل مثّل لعقود طويلة بوابة عبور من المدينة إلى الريف وبالعكس. فقد استخدم ككراج شعبي تنطلق منه العربات والحناتير نحو صلنفة كسب الحفّة والقرداحة. محمّلة بالبضائع والركاب.
ويشير الباحث في الموروث التاريخي حيدر نعيسة إلى أن السوق كان يفتح أبوابه صباحاً ويغلقها مساءً ويضم خانات للمبيت يستريح فيها التجار القادمون من القرى. وكانت البضائع الأساسية تشمل التبغ والحنطة والدواب مما جعل المقبي ملتقى للتبادل التجاري والاجتماعي بين الريف والمدينة.
ذاكرة الباعة
بين أزقة السوق ما تزال بعض المحال تحافظ على مهنها المتوارثة أباً عن جد. يقول العم فخري أحد أقدم باعة النسيج وقد تجاوز عمله الأربعين عامًا
المكان لم يتغيّر كثيراً، لكن الناس تغيّروا ما زال للسوق روّاده فهو يحمل نكهة خاصة عند أهالي المحافظة لما فيه من تنوع ورخص بالأسعار مقارنة بالأسواق الأخرى.
أما أبو اسكندر من أقدم أصحاب المحلات، فيستعيد صورة السوق في خمسينيات القرن الماضي:
كنا نفتتح المحلات مع شروق الشمس ونغلقها عند الغروب. الخانات تمتلئ بالتجار من الريف، الممرات تضج بالناس، وأصوات الباعة تملأ الزوايا. تغيّر الزمن، لكن السوق ما زال يحتفظ بروح تلك الأيام.
فرصة للإحياء السياحي
ترى الخبيرة السياحية لبنى درويش أن سوق المقبي يتمتع بمقومات كبيرة تؤهله ليكون مركز جذب سياحي شبيهٍ بخان الخليلي في القاهرة أو سوق الحميدية في دمشق، وتوضح القيمة الحقيقية لهذه الأسواق ليست اقتصادية فقط، بل هي روح المدينة. المقبي يحتاج إلى رؤية لإعادة تأهيله، تشمل إعادة ترتيب ممراته ومحلاته، وتفعيل النشاط الحرفي، وتوفير خدمات للزوار.
ومن جانبه، يؤكد علي عاصي رئيس الوحدات الإدارية في محافظة اللاذقية أن السوق يحظى باهتمام خاص ضمن خطة الحفاظ على الطراز المعماري للمدينة القديمة مشدداً على أن أي مشروع لإحيائه سياحياً يجب أن يراعي طابعه التاريخي ويمنع أي تعديات عمرانية قد تمس هويته. ويضيف: نحن نعمل على تنظيم عمليات الترميم وفق معايير تحافظ على الأصالة وتضمن السلامة العامة، بالتعاون مع أصحاب المحال والأهالي، لأن حماية المقبي مسؤولية مشتركة تسهم في تعزيز الدور السياحي والثقافي للمدينة.
ذاكرة حيّة تنتظر من يوقظها
بين حجارة المقبي وقبابه الصامتة تختزن اللاذقية ذاكرة حيّة تنتظر من يوقظها. فالمقبي ليس سوقاً فحسب، بل إرث معماري واجتماعي يمكن أن يتحول إلى وجهة سياحية بارزة إذا ما أُعيد إليه وهجه بروح عصرية تحترم ماضيه العريق.