الحرية – حسين الإبراهيم:
- كيف يمكن للتلفزيون أن يدعم أو يعوق عملية تأهيل الأطفال للمستقبل؟
- لماذا يشكل التلفزيون تحدياً لمؤسسة الأسرة والمجال التربوي في تأهيل الطفل؟
- هل تكفي الرقابة الأسرية لضبط محتوى التلفزيون وحماية النشء؟
- متى يتحقق التوازن بين دور التلفزيون والأسرة والمدرسة في إعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل؟
يواجه الأطفال في عصر الثورة الصناعية الرابعة، تحديات غير مسبوقة في تنشئتهم وتكوينهم، خاصة مع تسارع التكنولوجيا وتطور وسائل الإعلام، أبرزها التلفزيون الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
هنا تثار إشكالية مهمة: هل يُعد التلفزيون رفيقاً رديفاً يدعم بناء مهارات المستقبل لدى الطفل، أم إنه أصبح عائقاً يعوق نموه وتطوره؟
تتشابك هذه الإشكالية مع واقع الأسرة والمؤسسة التربوية التي تجد نفسها أمام مهمة جديدة وشاقة في توجيه واستثمار هذا الوسيط بالشكل الأمثل، فبينما يقدم التلفزيون فرصاً تعليمية وثقافية، يمكن أن يفضي الاستخدام غير المنضبط والعشوائي إلى نتائج عكسية تؤثر على النواحي النفسية والاجتماعية والفكرية للطفل، هذا الاشتباك المعرفي يفتح أبواب البحث في كيفية استغلال التلفزيون كأداة بناء لا هدم، والتحديات التي تفرضها هذه الوسائط على الأدوار التقليدية للأسرة والمدرسة في تأهيل جيل المستقبل.
إشكالية العلاقة بين الأطفال والشاشة
يقضي الأطفال ممن لم يتجاوزوا عمر 8 سنوات في المتوسط حوالي ساعتين ونصف يومياً أمام الشاشات، ما يشمل التلفزيون، الأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية. وهذا الرقم مستقر تقريباً مقارنةً بالسنوات الخمس الماضية، لكن طبيعة الاستخدام تغيرت من التلفزيون المباشر إلى مقاطع الفيديو القصيرة والألعاب الإلكترونية.
تصل نسبة متابعة الأطفال للتلفزيون (بما في ذلك البث التقليدي والرقمي) إلى 88%، مع زيادة تصاعدية في استخدام الأجهزة الأخرى كاللوحيات والهواتف الذكية مع التقدم في العمر.
ارتفع الاستخدام المكثف لمقاطع الفيديو القصيرة عبر منصات مثل يوتيوب وتيك توك من دقيقة واحدة في 2020 إلى 14 دقيقة يومياً في 2024، مع تأثير سلبي على قدرة التركيز والانتباه لدى الأطفال بسبب كثافة التحفيز والمحتوى السريع.
يشاهد الأطفال (منذ الولادة حتى السنتين) التلفزيون ما معدله ساعة و3 دقائق يومياً، بينما الأطفال الأكبر عمراً (5 – 8 سنوات) يقضون أكثر من 3 ساعات ونصف يومياً.
وجدت دراسة أسترالية أن الأطفال الصغار يفقدون فرصة سماع أكثر من 1000 كلمة يومياً بسبب الإفراط في مشاهدة الشاشات، ما يؤثر سلباً على نمو مهاراتهم اللغوية.
تبين هذه الإحصاءات بوضوح حجم التعرض الكبير للشاشات والتلفزيون عند الأطفال، مع تحويل طبيعة التعرض للمحتوى المتنوع والمتغير، ما يفرض تحديات حقيقية على الأسرة والمؤسسات التربوية في استثمار هذه الوسائل بشكل إيجابي لبناء مهارات الطفل للمستقبل، وعدم جعلها عائقاً ينال من نموه العقلي والاجتماعي.
نموذج التلفزيون الرديف ونموذج التلفزيون السلبي
في تحليل المعطيات الإحصائية والإعلامية حول تأثير التلفزيون على تأهيل الأطفال للمستقبل، يتضح جلياً وجود نموذجين متباينين يعكسان جدلاً معرفياً حيوياً:
نموذج التلفزيون الرديف يمثل النسخة الإيجابية
حيث يقدّم محتوى تعليمياً وتربوياً يُثري مهارات الطفل العقلية والاجتماعية، ويعزز رصيده اللغوي والمعرفي، كما يسهم في تنمية ميوله الشخصية وتنويعها، ومن خلال برامج تُعزز القيم والاتجاهات الإيجابية، يسهم هذا النموذج في بناء شخصية متوازنة، ويوفر فرصاً ترفيهية ذكية تُشجع على التفاعل الأسري والتعلم الجماعي. وعند توفر إشراف واعٍ من الأسرة والمربين، تُصبح هذه البرامج أداة فعالة في تقوية النمو الانفعالي والعقلي، وتعزيز روح الإبداع لدى الطفل.
نموذج التلفزيون المعطل الجانب السلبي
حيث يؤدي الإفراط في المشاهدة وسوء إدارة الوقت إلى انغماس الأطفال في ساعات طويلة أمام الشاشة، ما يضعف التفاعل الاجتماعي ويؤخر النمو اللغوي ويقلل من مهارات التركيز والانتباه. كما يُعطل النشاط الحركي ويزيد من السلوكيات السلبية كالعزلة والعدوانية، ويُعزز مظاهر العنف ومخاطر البدانة نتيجة قلة الحركة وتأثير الإعلانات، ما يخلق حالة من الاعتماد السلبي على المحتوى دون مشاركة فعالة في عملية التعلم.
مقارنة بين التلفزيون الرديف والتلفزيون المعطل
يظهر تحفيز التفكير حول هذه الإشكالية في ضرورة فهم أن التلفزيون بحد ذاته ليس “العدو” أو “الصديق”، بل إن جوهر القضية يكمن في نوعية المحتوى، إدارة الوقت، ودور الأسرة والمؤسسات في التوجيه والإشراف للتوازن ما بين الفوائد والتحديات التي يفرضها هذا الوسيط في عالم متسارع التكنولوجيا والتغير السياسي والاجتماعي.
أطفال السايبر والعنكبوت الأزرق
في المسلسلين اللذين أعددتهما للتلفزيون: “العنكبوت الأزرق” 2016 و”أطفال السايبر” 2023، لم يكن هدفي الأساسي مجرد تعليم الأطفال حقائق ثابتة أو معلومات معتمدة، بل سعيت بعمق لإثارة قدراتهم الذاتية وتنمية مهاراتهم الفكرية، كنت أحرص على خلق مساحة تسمح لهم بالتفكير النقدي والتحليل، حيث يصبحون فاعلين في مواجهة تحديات المستقبل، وليسوا مجرد متلقين سلبيين للمعلومات.
لم أخف من التعامل مع أخطائهم بقالب تربوي، معتبراً تلك الأخطاء فرصة حقيقية للتعلم والنمو، وليس فقط توقفاً عند الفشل، فكل خطأ كان بمثابة نموذج يُظهر للطفل كيفية التفكير بشكل مختلف، وكيف يستنتج الدروس، ويعيد بناء إستراتيجياته، هذه الطريقة سمحت لي بأن أؤسس لجيل من الأطفال قادر على التفكير المستقل، ومسالمة الأسئلة، ومتحفزة للابتكار، وهو ما يعبر حقاً عن رؤية الثورة الصناعية الرابعة التي لا تبحث فقط عن المعرفة، بل عن كيفية استخدامها بشكل فعّال ومبتكر.
بهذا الأسلوب، كانت أفكاري تتوغل في أعماق عالم الطفل، لا تهدف فقط إلى ملء ذاكرته بالمعلومات، بل إلى تشكيل وعيه وتطوير مهاراته التي تضمن له القدرة على اجتياز مستقبل معقد ومتغير باستمرار.
محتوى مرئي تفاعلي يعزز استقلالية الطفل في التفكير
عالمياً، هناك تجارب رائدة تسعى لتأهيل الأطفال عبر التلفزيون ووسائل الإعلام لتعزيز التفكير النقدي والإبداعي لديهم، مع التركيز على بناء مهاراتهم لا مجرد تعليم محتوى ثابت:
في عدة برامج تعليمية عالمية تُعنى بتنمية مهارات التفكير النقدي، يُستخدم التلفزيون كأداة تفاعلية تثير فضول الأطفال عبر طرح أسئلة وتحديات تشجعهم على التحليل والاستنتاج، كما شهدت تجارب في عدة دول تدريب الأطفال على مواجهة التحيزات الشخصية وتحليل الواقع بشكل منطقي ومنفتح.
بينت دراسة علمية حول تنمية مهارات التفكير الناقد للأطفال ذوي الإعاقة العقلية، فاعلية برامج تعليمية ترتكز على مبادئ التفكير النقدي البسيطة المعززة من خلال محتوى مرئي تفاعلي يعزز استقلالية الطفل في التفكير واتخاذ القرارات.
تجربة “كيوريوكيدز” التعليمية التي تدمج بين الترفيه الرقمي وتنمية مهارات متعددة مثل التواصل، الإبداع، العمل الجماعي، والتفكير النقدي، من خلال برامج تعزز سرد القصص، الفنون، والأنشطة التفاعلية التي تخلق بيئة محفزة ومتوازنة للنمو وتطوير الطفل، تمثل نموذجاً متقدماً في التعليم الشخصي، وتُظهر كيف يمكن للتقنية أن تُستخدم لتعزيز التعلم لا استبداله.
محتوى تلفزيوني عالي الجودة
المخرجات المعرفية التي يمكن استنباطها من برامج الأطفال التلفزيونية التربوية، استناداً إلى الدراسات والتجارب المتنوعة، تشمل عدة جوانب مهمة تسهم في تأهيل الطفل فكرياً واجتماعياً، منها: تنمية القيم العلمية والوطنية والاجتماعية، وتطوير المهارات اللغوية، وزيادة الوعي والثقافة، وتنمية مهارات الإبداع والتفكير، وتحفيز الانخراط الاجتماعي والسلوكي الإيجابي، وإضافة دور مكمّل للأسرة والمدرسة
هذه المخرجات المعرفية تؤكد أهمية الاهتمام بإنتاج وبرمجة محتوى تلفزيوني عالي الجودة، يأخذ في الحسبان الفروق العمرية، ويُراعي الاحتياجات التعليمية والتربوية للطفل، ليكون التلفزيون أداة حقيقية في تأهيل جيل المستقبل بمختلف مهاراته الفكرية والاجتماعية.
مؤشرات قياس
تتيح المؤشرات تقييماً شاملاً ودقيقاً لدور التلفزيون في حياة الطفل، وتساعد على تشخيص الفجوات ودعم السياسات التربوية والإعلامية لتحسين المحتوى وأساليب الاستخدام وبالتالي تعزيز الأثر الإيجابي وتقليل السلبي.
مؤشرات إيجابية مثل: مستوى تنمية المهارات المعرفية، وتحسن مهارات اللغة والتواصل، وزيادة الوعي بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، ومستوى التفاعل الأسري حول المحتوى، ومعدل استخدام البرامج التعليمية التفاعلية
مؤشرات سلبية مثل: معدل ساعات المشاهدة اليومية للتلفزيون، وتأثير المحتوى غير المناسب، وتراجع النشاط الاجتماعي والتواصل الواقعي، ومستوى صعوبة التركيز والانتباه، ومخاطر صحية مرتبطة بالجلوس الطويل أمام الشاشة
إجابات
- يدعم التلفزيون تأهيل الأطفال حين يقدم محتوى يدمج بين التربية والترفيه والتعليم الهادف، ويعوقه حين يروّج للسطحية والعنف.
- يشكل التلفزيون تحدياً لأنه يتسلل إلى وعي الطفل دون رقابة مباشرة، ويزاحم الأسرة والمدرسة في تشكيل القيم والسلوك.
- الرقابة الأسرية ضرورية إذا اعتمدت المنتج الإداري لا التسلطي، لكنها غير كافية دون وعي إعلامي ومشاركة تربوية فعالة.
- يتحقق التوازن حين تتكامل الرسائل التربوية بين الإعلام والأسرة والمدرسة ضمن رؤية مشتركة للطفولة والمستقبل.
الخاتمة
يثير دور التلفزيون في تأهيل الأطفال للمستقبل تساؤلات عميقة تستحق التفكير النقدي، فهل يمكن أن نعيد صياغة علاقة الطفل بالتلفزيون والوسائط الرقمية لتكون شراكة حقيقية في بناء مهارات الجيل القادم؟
كيف يمكن للأسرة والمؤسسة التربوية أن تتكيف مع هذه الوسائط المتغيرة لتعمل كموائمة بين الترفيه والتعليم؟ وما هي الخطوات الممكنة لضمان اختيار المحتوى المناسب الذي يعزز القدرات الفكرية والاجتماعية دون أن يحيد الأطفال عن التفاعل الحقيقي مع العالم من حولهم؟ وأين يكمن السر في تحقيق توازن فعّال بين التكنولوجيا والأنشطة الحياتية الأساسية التي تضمن صحة ونمو الطفل؟
هذه الأسئلة تفتح آفاقاً واسعة للحوار وتلزمنا جميعاً بالتأمل والبحث الجاد عن حلول قائمة على الوعي والإشراف المشترك، لتكون وسائل الإعلام قوة داعمة للتنمية لا عقبة في طريقها.