الحرية – هويدا محمد مصطفى:
شاعرة توقظ الحروف من نبض الصمت لترسم النور في زوايا الكون، وتُبشر بمفاتيح الحب في قصائدها المتوهجة، كتبت الشعر العمودي والنثر والخاطرة والقصة القصيرة جداً، وتنوعت سفن الإبحار في مدائن سطورها، فقد أجادت في الشعر الوجداني والغزلي والوطني، ووصفت بعض القضايا الاجتماعية بطريقة أدبية متمرّسة، صحيفة “الحرية” التقت الشاعرة نجوى رحمون، وكان لنا معها الحوار التالي:
لكل مبدع أو مبدعة نقطة تحول، حدثينا عن تجربتك الشعرية والقصيدة الأولى، ولماذا اخترت الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؟
أخذت من الحياة ألوانها، ومن المحبة سماتها بجاذبية روحانية لتعزف على أوتار قلبي ألطف الهمسات وأعذبها. بالشعر حنيني لقريتي “المندرة” كان يستفزني بإحساس انعكس بتميُّزي، لتتزاحم الأفكار في مخيلتي بجمال الطبيعة، رغم تباين الأفكار بيني وبين الناس من حولي. الحزن والأسى يحفزان الشاعر على الإبداع، باعتبار الفرح طارئاً. فيغفو همسي بين الحنايا / منتبهاً منسكباً بين الضلوع / حرفاً ماسيّ الألق. فلا يمكن أن نتحدث عن نشوء نص من الصفر، ودخوله في علاقات تأثر وتأثير، دون أن تكون العين أكبر من الكتب وأكبر من الدار. هو أمر يفرضه قانون الإبداع من الأزل، وكل كتابة أو نقش امتداد لسابقاتها، وقد تتجاوزها أو تسبقها. كتبت النثر والنَّقِيضَة (أو: النَّقْبَضَة) والومضة والقصة القصيرة جداً.
عندما أقرأ الشعر أشعر بأن الكون يجلس معي لتحقيق سعادتي الذاتية. كنت أعتق ميامي للشعر نبيذاً لأحتسيه شفةً شفة، جندت معظم قصائدي من بحر الكامل والبسيط والوافر.
قصائدك هل تأتي من صدق التجربة أم شحنة الروح، وهل للتمكن اللغوي لديك من تأثير في تشكيل الصورة بشكلها الأبهى؟
لا شك في أن التمكن اللغوي له تأثير في تشكيل الصورة الفنية للقصيدة، فضلاً عن خصب الخيال. وأفقر الفقراء من ليس لديه خيال. وأنظم إيقاع الرؤية بالأريج والعبق، وألوي أعناق النص شعراً؛ فهو جنس من تصوير الخيال، وضرب من نسيم لوحة حريرية مطرزة بخرز السيلان. فالحذق لمصورها وسمو مفرداتها. يقول أفلاطون: “اختيار الكلام أصعب من تأليفه”. فالصورة اندماج الذاتي مع الموضوعي مجازاً واستعارة وإيحاءً وكناية. فالوعي المعرفي يؤدي إلى الرضا في معرفة الذات وقبولها وتحقيقها.
كيف تكتبين القصيدة، وما هو تصورك للشعر وطرائق تعبيره؟
أنمي نفسي بتجديد أفكاري بالقراءة دائماً. فأختار موضوع القصيدة، وأعيش بفكرتها، وأختار القافية بإحساس مرهف. فكتابة قصيدة موزونة كان حلمي وتحقق – ولله الحمد – لأن لدي فصاحة لغوية لإيصال هدفي إلى القارئ. فقصيدتي هي التي تختار البحر ولست أنا. إلهامي هو فكرة أدونها في قصيدة دون تقييد إحساسي.
ما هي الموضوعات التي تتناولينها في كتابة نصوصك الشعرية؟
أبتكر ما هو لائق لامتلاك الفرادة والأنا المختلفة، لأحمل أرجوانية اللغة. فوطني يحمل هويتي بكلمة مميزة واسم مميز، بل حرف مميز هو (النون وما يسطرون). وقد تدفقت روحي الأنثوية المتسامية نحو الأنسية والأنسنة كوعي يفك الرموز والمعاني، برغبة متوثبة في مضامين شعرية وشاعرية. وتناولت ثيمات مرتبطة بالحياة والإنسان والجيش فداءً للأحلام وضمانةً للأيام. وللشهداء الساكنين قلبي، لهم حيز كبير في مفرداتي، فضلاً عن عناوين أخرى.
ماذا تحدثينا عن أغراض ومضامين ديوانك الشعري الأول؟
الشعر يساعد القارئ على تحريضه. أنا لم أضع خريطة لديواني الأول “ليليت”. أفصحت عن مهارة الكتابة المبتكرة، وصيغة المفرد في حالة الجمع هي “أنا” يا النامية في خلق وشائج في قصائدي تكون غير مألوفة في تجلياتي. فملكة الشعر تهرب من التحليل، سواء كانت إلهاماً أو شيطاناً أو وهماً أو معرفة. فإن خطواتها لا تشبه خطوات العقل المتعقل والجاف. “ليليت” حفيدتي الأولى، هي ربة المهد، هي زهرة الليلك، هي ليلى، هي المجدلية وعشتار… إلخ. في مقطع من القصيدة:
هي أتقنت الغياب / وأنا أتقنت الحنين / وتتلعثم الشفاه / وتقول ما لا يقال مثله / خيال شطآن مشاعري / عن خفة ولهي / والأنس بقربها / يساوي الكون كله.
ما رأيك بالنقد، وهل يوجد لدينا نقاد في مجال الشعر؟ أين أنت من ذلك؟
الموقف النقدي طَردَ الموقف الجمالي. يجب أن نبدأ بالوعي النقدي دون ترصد الأخطاء من غير برهان، كأن يقول: القصيدة غير سلسة أو فيها هنات. ورأيت أن كل شاعر هو ناقد ينحاز لفكرته، لأنه خارج صندوقه، خارج القلب (دون محبة). هنا ننفر منه ولو كانت فكرته صحيحة، لأنه أناني بطبعه، هدفه الانتصار لذاته. عليه أن يلمح إلى جماليات النص قبل ذكر الأخطاء إن وجدت. أما النقد الإيجابي الذي يغور في بنية النص وشكله وأبعاده الدلالية، فهو المبتغى.
هل تجدين ذاتك من خلال أعمالك؟
الشعر علاج الروح، والخيال دواؤه. ألملم وجع الوطن ووجع الأرض بالشهداء، وأخلع همومي. نعم، حققت ذاتي إلى حد كبير، وعانقت السماء والكون بنك المشاعر، ليس من بنك الأموال. والبين واسع، ومازال حلمي كبيراً أن أكتب قصيدة مثل “يتيمة الدهر”.
ما رأيك بمستوى الحركة الأدبية الراهنة في بلدنا؟
تشهد ساحتنا الثقافية صحوة إبداعية رغم قسوة الظروف، يتجلى ذلك في حقول الشعر والرواية والقصة والسيرة الذاتية وفن الموسيقا. ووسائل التواصل ثبتت متابعات لمنتجات كافة الفنون والأدب، ويصب ذلك في صالح الجميع، سواء الأديب أو القارئ. وبرأيي، يجب تأسيس علم منضبط لدرس الإبداع على أسس معرفية وفلسفية وعلمية، بأدوات حازمة لضبط المعايير.
صدر للشاعرة : “ليليت الليلك”، و”بوح النجوى”، و”وهج الرؤى”، و”أضواء الروح” (سيرة ذاتية)، و”حبري” (مقالات وبعض القصص).