الحرية – إلهام عثمان:
لم يعد الشتاء في سوريا مجرد فصلٍ يمر، بل أصبح كابوسًا سنويًا يطارد ملايين السوريين، و مع حلول عام 2025، يقف المواطن على حافة خياراتٍ أحلاها مرّ: إما مواجهة الصقيع القارس بجيوبٍ خاوية، أو المقامرة بالحياة نفسها في سبيل الحصول على قليلٍ من الدفء.
ففيما تعرض واجهات المحال التجارية حلولًا باهظة الثمن وقد تكون أيضاً آمنة، تعود أغلبية الأسر إلى وسائل بدائية تحولت بفعل الفقر إلى مصائد للموت، في ظل غياب شبه تام للرقابة وتوفير الحلول الفعالة.
رفاهية معطّلة وأسعار فلكية
في أسواق الطبقات الميسورة، تلمع أجهزة تدفئة حديثة مستوردة، تُعرف بمدافئ “التوربو” الهجينة التي تحتاج إلى تجهيزات خاصة، ورغم كفاءتها، إلّا أن أسعارها التي تتراوح بين 3.5 و 6 ملايين ليرة سورية، حسب الحجم والنوعية، تجعلها حلمًا بعيد المنال. إلاّ أنها أيضاً تحتاج إلى توصيلات خارجية للتخلص من غاز ثاني أوكسيد الكربون.
ولكن.. حتى من يمتلك ثمنها، يواجه تحديًا آخر يتمثل في أزمة الكهرباء المزمنة؛ فهذه المدافئ تعتمد على الكهرباء لتشغيل مضخاتها ومراوحها.
ومع وصول ساعات التقنين إلى أكثر من 7 ساعات يومياً في بعض المناطق، تصبح هذه الرفاهية “معطّلة” ما لم يتم ربطها بأنظمة طاقة بديلة باهظة الثمن، ما يضيف عبئًا فوق عبء.
بدائل قاتلة و وليدة الحاجة
بعيدًا عن بريق “التوربو”، يعيش معظم السوريين واقعًا مختلفًا تماماً، يقول أحد الباعة في أسواق دمشق: إن مدافئ الكحول (السبيرتو) هي الأكثر انتشارًا، لسعرها الذي يبدأ من 600 ألف ليرة ويصل إلى 1.2 مليون ليرة وفقًا لنوعها. ويضيف: “بالرغم من أنها أحد الحلول البديلة، إلا أن وزنها الخفيف ونوع المعدن الرديء المصنوعة منه يجعلانها خفيفة جدًا، واصفًا إياها بـ”القنابل الموقوتة”.
أما “صوبية الغاز”، التي تبدأ أسعارها من 800 ألف ليرة وتصل إلى مليون ليرة، فمن مساوئها الحاجة الدائمة للتهوية وما تسببه من احمرار للعينين، فضلًا عن خطر نشوب حريق أو حدوث اختناق ما لم تتم التهوية بشكل مستمر.
وأخيرًا، مدافئ الحطب التي عادت بقوة للواجهة ليس في الأرياف فقط وإنما في دمشق، والتي تعتمد التدفئة على حرق الأخشاب بأنواعه أو تفل الزيتون وغيره.. حيث يبلغ سعر الطن الواحد منها 6 ملايين ليرة، ما جعلها ترفًا جديدًا.
وفي قاع ازدحام الأزمة بالبدائل، قد تلجأ بعض العائلات إلى حرق البلاستيك والنفايات والأحذية والفضلات القابلة للاحتراق مثل الألبسة القديمة، مستنشقةً بذلك سمومًا مسرطنة في سبيل التدفئة.
البعد النفسي
خلف أزمة الوقود والأسعار، تتوارى أزمة نفسية واجتماعية عميقة، وفق ما تشير إليه الخبيرة الأسرية عبير محمد ومن خلال حوار مع صحيفة “الحرية”، وأن الشتاء لم يعد مجرد فصل بارد، بل أصبح مصدرًا للخوف الدائم، فتعيش الأسر في قلق مستمر من نشوب حريق مفاجئ أو اختناق طفل نائم.
هذا الخوف يلقي بظلاله على كل تفاصيل الحياة؛ فالأطفال الذين يرتجفون بردًا لا يستطيعون التركيز في دراستهم، والأمهات يقضين لياليهن في تفقد أنفاس صغارهن، بينما يسود شعور بالعجز والتمييز الاجتماعي بين من يملكون الدفء ومن يفتقدونه.
صوت الطب
الأمر ليس مجرد دخان أو رائحة كريهة، هكذا بدأ الدكتور هاني قطرميز، اختصاصي الأمراض الصدرية، حديثه، موضحًا الأبعاد الصحية الكارثية لوسائل التدفئة البدائية.
و يوضح قطرميز أن غاز أول أكسيد الكربون، الناتج عن الاحتراق غير الكامل للوقود في المدافئ غير المهواة جيدًا، هو “قاتل صامت” لا لون له ولا رائحة، وعند استنشاقه، يحل هذا الغاز محل الأكسجين في الدم، ما يمنع وصول الأكسجين إلى الأعضاء الحيوية كالدماغ والقلب.
و تبدأ الأعراض بصداع، دوخة، غثيان، وضعف عام، وهي أعراض تشبه الإنفلونزا. ومع استمرار التعرض، تتطور الحالة إلى ضيق في التنفس، ألم في الصدر، تخليط ذهني، فقدان للوعي، وقد تصل إلى تلف دائم في الدماغ، فشل في القلب، وفي النهاية الوفاة.
“كوكتيل” من السموم
عندما تلجأ الأسر إلى حرق النفايات البلاستيكية والأحذية والملابس القديمة، فإنها تستنشق كوكتيلاً من المواد الكيميائية الخطرة، ويؤكد قطرميز أن حرق هذه المواد يطلق في الهواء غازات سامة مثل الديوكسينات و الفوران، وهي مواد مُسرطنة معروفة وتؤثر على الهرمونات وتضعف الجهاز المناعي.
كما يسبب استنشاق هذه الأدخنة تهيجًا والتهابًا في الجهاز التنفسي، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض الرئة المزمنة والربو، و على المدى الطويل، يرتبط التعرض لهذه المواد بأضرار في الجهاز العصبي والكبد والكلى، بالإضافة إلى زيادة مخاطر التشوهات الخلقية لدى الأجنة.
عدو لا يقل خطورة
في المقابل، يشدد قطرميز على أن البرد الشديد ليس مجرد شعور بعدم الراحة، فالتعرض للبرد لفترات طويلة يؤدي إلى انخفاض حرارة الجسم (Hypothermia)، وهي حالة طبية طارئة يفقد فيها الجسم حرارته بشكل أسرع من قدرته على إنتاجها، ما يؤثر على عمل الدماغ والقلب والأعضاء الأخرى.
كما تشمل الأعراض: الارتجاف، الارتباك، الكلام المتلعثم، والنعاس، وقد تتطور إلى فقدان الوعي وفشل القلب والجهاز التنفسي، كما يضعف البرد جهاز المناعة، ما يجعل الجسم، وخاصة لدى الأطفال وكبار السن، فريسة سهلة للالتهابات الرئوية القاتلة وأمراض الجهاز التنفسي.
ويختتم قطرميز قائلاً: نحن أمام خيارين مدمرين إما الموت البطيء بالسموم المنبعثة من وسائل التدفئة القاتلة، أو الموت السريع نتيجة البرد القارس ومضاعفاته، وفي كلتا الحالتين، الأطفال وكبار السن هم الضحايا الأكثر ضعفًا في هذه المعادلة القاسية.
غياب الحلول والرقابة
في خضم هذه المأساة، يبدو دور الجهات الرسمية ضبابياً، فبينما ترتفع الأسعار بشكل جنوني، تغيب الرقابة الفعالة عن الأسواق لضبطها، كما أن غياب حملات التوعية المنظمة بمخاطر وسائل التدفئة البدائية يترك المواطنين وحدهم في مواجهة مصيرهم.