صفحات “الفيسبوك” بين توثيق المنمنمات وضياع الهويّات!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:
تتكاثر الصفحات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة أنه حتى الخرداوات والتوالف والأدوات المستعملة أصبح لها صفحاتها الخاصة! وهي تتشعب كل يوم بشكل يشبه متاهة عنكبوتية عملاقة يعلَق فيها الناس، وتصبح هويّاتُ البشر والمدن والأماكن ضائعة ومشوّهة وعائمة في غَبَشٍ لا نهائيّ.
المفارقة هي أن بشر هذه الأزمنة لا يجدون خلاصاً من هذا “البلاء الافتراضي” إلا بأن يتماهوا معه ويصنعون لأنفسهم أيضاً صفحات مشابهة تمكنهم من القول: نعم لقد دخلنا العالم الافتراضي وها نحن أصبحنا خانةً من “الواحدات والأصفار” كأرقامٍ وكوداتٍ رقميّةٍ عجيبة.
صحيحٌ أنّ أيّ اختراع أو أيّ أداة تكتسب قيمتها من مستخدميها ومن الغاية التي تتوجه نحوها مثل السكّين؛ فهي بيد المجنون أو المجرم فتّاكة، وفي يد الفنّان أو الطبيب عافيةٌ ومتعة، لذلك ربما لا تخرج هذه المدونات عن هذا السياق حين نجدُ بعض المقنّعين المجهولين يستخدمونها للتخريب والتشويه والتحريض المريض، وقنْص طرائدهم من الصبايا والمراهقين لإشباع رغبتهم في السيطرة؛ فيما هم يتلذذون بالاصطياد وفكرة أنّهم يَرَون ولا يُرَوْن، وهذا ما يهدد جيل بأكمله ويجرفه نحو ضياع صبغة محددة لهويته الوطنية الثقافية!
لكن من ناحية ثانية نجد صفحاتٍ قيمة نادرة تمتلك بصمتها وقيمتها الجمالية والتاريخية، إذ إنها مثلاً تهتم بتوثيق منمنمات الحياة الاجتماعية لإحدى البيئات السورية المتنوعة، أو توثّق تفاصيل الناس في الأسواق والحارات، مثل هذا النصّ المُنغَّم الذي يلتقط اللغة المحكيّة ونداءات البائعين في دمشق:
“اسمعوا لغة البيّاعين/بالشّام وهنّي دايرين/
لغة بدها ترجمان/ونحنا عنّا مترجمين/
لغة بدها ترجمان/خصوصي باسم البيتنجان/
نادوا أسود يا ريّان/وقعة سودا وقعانين/
هاتوا طبل وزامورة لنسمِّع ياللي نايمين/
لنسمّع ياللي نايمين بعْل ومَلَكي آه يا تين/
الصبايا داير مندار/المشمش طيب قمرالدِّين/قمرالدِّين العال العال/ والنابت عند الفوّال
والضمّانة بيّاعين/باعوه بـِ أوّل نيروز/
ولا حبّة منيحة يا جوز/
يا خسارة ما عنّا موز/ ولَوْ كان عنّا؛ غالي كتير!”.

حياة موازية!

منمنماتٌ شعريّة باللهجة المحكية تجعل من تلك الصفحات وثيقةً نادرة يمكن لملايين الناس على امتداد الجغرافيا أن يتابعوها ويعيشوا مع أولئك الأشخاص في قلب المدوّنة ما يسمّى حياةً موازيةً تُغنيهم عمّا يفتقدونه في غربتهم أو تعطي لمن لا يعلم فكرةً محفّزة عن بلدٍ ما أو تجعل أهل البلد المعنيّ يقولون بنرجسيّةٍ محبّبة: ها هي ذي بلدنا فادخلوها آمنين.
وأودّ أن أشير هنا إلى الخصوصية الفريدة التي تتمتع بها صفحة Humans of Damascus” ومعناها: “ناسُ دمشق”، على سبيل المثال لا الحصر، إذ تقول مؤسِّسة الصفحة “رانيا قَطَف” في المقدمة التعريفية للمشروع: “بعض أهدافنا هي تسليط الضوء على التراث الثقافي الإنساني للدمشقيين وإنجازاتهم من عمارة وعلوم وفنون المطبخ الشامي، من قصص وأمثال شعبية وعادات وتقاليد، ماضياً وحاضراً.”
وهناك صفحة اسمها “أنتيكا سوريا” تدهشنا بصور نادرة لشخصيات فنية سورية، أو لمناطق ومعالم مشهورة من مدن سوريّة مثل نواعير حماة، أو عادات اجتماعية محببة مثل” السيرانات” في غوطة دمشق التي تكاد تصبح مجرد ذكرى حزينة في قلوب من شاهدها.

مهرجان إلكتروني للعاديّات!

اللافت في تلك الصفحات هو ما تلتقطه عبر فيديوهاتها وصورها النادرة القديمة/التاريخية المرسومة بعدسة رسّامين ومصوّرين كبار عايشوا وشهدوا الأيام الخوالي من تفاصيل وذكريات وشخصيات دمشقية فريدة أو عبر تلك المشاهدات الحديثة بعدسات شباب وصبايا انضمّوا لها وأغنوها بما لديهم من معاصرةٍ ومعايشةٍ يومية أعتقد أنه يمكن أن يُستفاد منها فيما بعد لتشكّل “مهرجان الكتروني للعاديّات”، ويمكن الاستفادة منها وإعادة طباعتها كبوسترات تشكل “مهرجان الوثائقيات السورية” بما ينقلها من الحيّز الافتراضي على أهميته ومتعته إلى الحيّز الواقعي كنوع من تثبيت وترسيخ لأهميتها ولهويّة المكان، وتنبيه الناس إلى أنه يمكننا فعلاً وبنوعٍ من مفارقة طريفة أن ندخلَ عالمَ النت اللانهائيّ حقيقةً ومجازاً معاً.

Leave a Comment
آخر الأخبار