الحرية- ميسون شباني:
حين يتلبس الحنين ملامح الإنسان، يغدو صوته صدىً يتردد في أروقة الروح، هكذا يتجلى ديوان “صمت الحنين” للشاعر الدكتور أنيس رزوق، كمسعى وجداني يرسم ملامح الشوق بماء القلب، ويعبر ضفاف الغياب عبر قصائد نثرية تفيض بالرمزية والصور الدافئة، تجربة فنية متفردة تمزج بين الواقعية العاطفية والرؤية الرمزية، بين نثرية طليقة وإيقاع داخلي يترقرق كنسيم خفي.
الديوان بكلّ صمته وصراخه، إهداء إلى أولئك الذين يسكنهم الحنين كقبس لا يخبو، وصوت خفي يواصل الغناء في ظلال القلب.
يتتبع الشاعر رزوق لحظة بلحظة توقيت حنينِه ليستقرئ الصَّمْت كلغة ثانية عابرة للغة التوهّج والهيام، كي يعبر إلى الكينونة الأولى، فاللغة حسب ما يذهب إليه مارتن هايدغر هي مثوى الكينونة، ولاسيما ونحن ندخل إلى عوالم الانخطافات البارقة للذّات واللغة وتوقيعاتِها على جدارية القلب لنتلقف (رشفات القلب على خّد العدم )، فمن شعرية النثر وومضاته المموسقة يذهب بنا إلى هندسة الشجن وكيميائهِ، ليعاير خواص الذَّات في تماهيها مع اللغة وكيف تذهب الذات إلى بوحِهَا الخاص لهفة وعبوراً …
يبدأ د. رزوق رحلة الحنين من اللمسة الأولى، حيث تتحول الذكرى إلى طفل مشاكس ينام “على رصيف الذكريات”، كما يقول في ومضته المفتاحية:
“الحنينُ، طفلٌ مشاكسٌ نامَ على رصيفِ الذكرياتِ ليعانقكِ.”
بينما يرسم الشاعر في قصيدة “رعشة الحنين”، لوحةً شفيفة للاشتياق، حيث “ينثر حبره سحراً من بيان”، معلناً أنّ الحنين ليس حالة راكدة، بل توهج مستمر في مدار الحضور والغياب، والقصيدة تنساب في نبرة مناجاة مشبعة بالتوق:
“تُشعلني بنارٍ من حنينٍ
وتُطفئني بعطر الكلام.”
هذا التوتر بين الاحتراق والارتواء يشكل أحد أعمدة البناء الشعري للديوان.
بعدها نرى الحنين وقد اتخذ شكله الوجودي في قصيدة “عابرة برسم العبور”، فالعطر يصبح أثراً لذكرى، والصوت المفقود يتحول إلى صرخة مكتومة على ضفاف الروح، ويعبر بأن الحنين عبادة صامتة، ومسعى دائم لعبور المسافات المستحيلة يقول:
“في مناسك صمتك
أزاحم القدر في عروق نبضك.”
أما في قصيدة الديوان الرئيسة “صمت الحنين”، فيبلغ الشاعر ذروة التصعيد الرمزي، حيث ينقلب الصمت إلى صراخ مكتوم:
“صمت الحنين
كامن في خلايا السنين.”
وهنا، تتكثف المفارقة: الحنين قوة ناعمة لكنها جارحة، خيط ممتد بين الذاكرة والجسد، بين الرغبة والخسارة.
فـهل يشيخ الحنين؟
الاستفهام الفلسفي الذي يطرحه د. رزوق يختصر جوهر التجربة بأسرها، ويمنح الديوان بعداً تأملياً عميقاً يجعل القارئ يعيد النظر في معنى الزمن العاطفي.
يخترق الشاعر العاطفة الصافية في قصيدة “الوفاء”، حيث يعيد رسم صورة الحنين ليس باعتباره وجعاً للفقد فقط، بل بصفته احتفاءً بالعلاقات الأصيلة:
“هو قلبك
يفرِد جناحيه فوق الألم.”
هنا، الوفاء والحنين يلتقيان، في جسد لغوي واحد، يداوي جراح الزمن ويضيء ليل الوحدة.
وسرعان ما يغدو الحنين في قصيدة “حتى أقاصي الخوف”، رغبة هاربة من قسوة الواقع:
“رَشَفةٌ ترتجفُ حتى أقاصي الخوف.”
الرشفة رمز للوصال، ولكنها أيضاً خوف دائم من الانطفاء، وهكذا يخلق الشاعر عالماً متوتراً بين الرجاء والرعدة.
ويختتم الديوان بإعلان حبٍّ خالد في قصيدة “شام”، حيث تصبح دمشق ذاتاً متجددة عبر الأزمنة، حاملةً أحلام المحبين ومجد الذكرى:
“شامُ… وشآمُ
أحلامٌ تعانقُ ذاتَها.”
تغتسل القصيدة بالمطر، وتتراقص فوق جبال قاسيون، في لحظة شعرية تختصر الوطن بوصفه الحنين الأعلى، ذاك الذي لا يشيخ ولا يغفو.
“صمت الحنين” خريطة روحية ترسم تضاريس القلب الإنساني. يتنقل إبانها الدكتور أنيس رزوق بين البوح والصمت، بين الانفجار والكتمان، ليؤسس نصاً مفعماً بالحياة والرمز والعاطفة الرفيعة.
تجربة صمت الحنين ولادة حنين يمتلك ناصية الحرف، ويجيد العزف على أوتار النفس البشرية بدفء واقعي وشاعرية متألقة.، وإذا كان “صمت الحنين” قد باح لنا ببعض أوجاعه، فإننا ننتظر بشغف ما سيحمله القادم، حين يتفتح “بوح الحنين” على آفاق أوسع من العاطفة والفكر.
الجدير بالذكر أنّ الكتاب الشعري (صمت الحنين) مجموعة قصائد نثرية تنتمي للبعد الفلسفي الروحي، ويقع الكتاب في 103 صفحات من القطع المتوسط وهو من إصدار دار ليندا للنشر والطباعة والتوزيع.
صمت الحنين لأنيس رزوق: الشعر بين صراخ الذاكرة وهمس الروح

Leave a Comment
Leave a Comment