صناعة “التنور” بدير الزور.. مهنةٌ لا تزال حاضرة رغم المتغيرات بوسائل الإنتاج

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- عثمان الخلف
رغم المتغيرات التي طالت وسائل الإنتاج وما أفرزته من جعل هكذا مهنٍ تراثية لا أكثر، لا تزال لمهنة صناعة “التنانير” حضورها في محافظة دير الزور، وعموم الشرق السوري، حيث يحرص أهالي الريف على اقتنائه، مُحافظين على وجوده في منازلهم، مهنةٌ تعمل بها النساء، إلى جانب الرجال، غير أنهن تفردن بالعمل بها أكثر.

تعلمتها صغيرةً

كعادتها منذ أن تعلمت كيفية صناعة التنور، تستيقظ أم نضال مع ساعات الصباح الأولى إلى عملها، خصصت مكاناً حول منزلها تضع فيه التراب الذي تجمعه وتصب عليه الماء لتجبله فيتحول طيناً تصنع منه أعداداً من التنانير حسب الطلب.
تحدثت أم نضال لــ”الحرّية” عن مهنتها قائلة: “أغلب من يعمل بهذه المهنة هُنّ النساء، كانت بداية تعلمي لها في مدينتي موحسن، بعمر الثالثة عشرة بدأت عندما كنت أتردد على جارتنا التي تمتهن هذه الصناعة، وهكذا شيئاً فشيئاً تعلمتها، ووضع عائلتي الفقير لم يُتح لي الالتحاق بالمدرسة، بالرغم من وجود المدارس آنذاك ولا أزال حتى الآن أعمل بها وتساعدني إحدى بناتي، أما زوجي فيعمل (جصاصاً)، وبذلك نتعاون على تأمين القوت اليومي لعائلتنا، إضافة لطفلتين يتيمتين لابنتي.
وأضافت أم نضال: “لم تعد صناعة التنور كما السابق، الناس تلجأ الآن للمخابز الآليّة، حتى في الأرياف التي كان التنور أحد أبرز ما تمتلكه العائلة، الأحداث التي مرت بها دير الزور، غيبت الزراعة، لكن بقي التنور موجوداً وتلجأ له العوائل الريفيّة وعند توفر القمح، كنت تشاهد النساء الريفيات يخبزن بشكل يومي، لكن الآن الأمر يتم في الأسبوع مرة، وأحياناً في الشهر مرة أو مرتين، اللهم إلا من استطاع زراعة أرضه وتخزين قوته من القمح، فتجد خبزه بشكل يومي، فالأمر بات مُرتبطاً بالمستوى المعيشي.
لاشك أن الإقبال على اقتناء التنور قليل كما تُشير العباس، لكنّه لا يزال مطلوباً، سواء في الأرياف أو في المدن بالنسبة لمحال خبز التنور الأهليّة”.
وعن كيفية صناعته قالت: “يحتاج الأمر نوعيّة معينة من التراب، في دير الزور نُسميه (الحري) أجلبه من منطقة في القرية قريبة من نهر الفرات، تصل كلفة نقلة التراب هذه إلى 50 ألف ليرة، بعد جلب التراب لا يحتاج الأمر سوى للماء والملح ويمكن أن نأتي بالتراب من أرض سبخيّة تُعيضنا عن وضع الملح، وأضيف أيضاً لزيادة تماسك التنور عند صناعته بيدي خيوطاً من أكياس الخيش، الملح وخيوط الخيش تُقويانه وتزيدان صلابته كما مادة التبن، كذلك يحتاج يداً مُدربة وليس بالأمر السهل، بناتي الثلاث تعلمن المهنة أيضاً، وهنّ يساعدنني بالعمل، أقوم ببنائه بشكل دائري بدءاً من قاعدة أسمنتية، وأدوِّره حسب التقدير، وأتركه لمدة أربعة أيام ليصبح قاسياً، حيث أضع أكياساً كبيرة فوقه ثم أجهز الطين حتى يصبح قابلاً لوضعه عليه، وللتنور ثلاثة أنواع منه الكبير والوسط والصغير وفق رغبة الزبون “.
لا تعمل السبعينيّة دون سيجارتها (نوع حمراء طويلة) فهي تلازمها منذ زواجها، ولا تقوى على العمل دونها تقول ضاحكة: “لا أجيد عملي دون تدخين هذا الصنف، لم أغيره حتى وأنا بهذا العمر، هو يناسبني مادياً وله مذاقه الذي اعتدته، في سنوات ما قبل اندلاع الثورة، كنت أصنع أسبوعياً 60 تنوراً، حالياً يصل عددها خلال فترة الأسبوع 15 فقط وأبيع الواحد منها بسعر 30 ألف ليرة سورية، أجمع ما أصنعه من التنانير صيفاً في مكان مُشمس بإحدى زوايا منزلي، وفي الشتاء أضعها بمكان آمن تحسباً من الأمطار تحت سقفٍ محمي، لازلت بصحة جيدة تمنحني القدرة على متابعة عملي.
فيما تؤكد ابنتها ”فضيلة” البالغة من العمر 25 عاماً أنه في سنوات ما قبل حرب النظام البائد على الثورة، كان الزبائن من عدة محافظات يقصدون والدتها لشراء حاجاتهم من التنانير، من ريف حلب وحماة وإدلب، كما من الحسكة والرقة: “علمتني والدتي المهنة، أساعدها في إنجاز العمل الذي يستغرق وقتاً طويلاً، ووالدتي رغم كبر سنها لا تزال مُصرّة عليه، فما نصنعه يدر علينا مالاً يسد باباً من حاجات عائلتنا المعيشيّة، نجد لذة في عملنا رغم تعبنا، غالباً تستيقظ والدتي باكراً فهي تحتفظ بدورها في التنفيذ والإشراف لجعل قالب التنور تُحفة فنيّة عالية الدقّة وإنجازها بمهارة “.

التنور جزءٌ من المنزل الريفي ويُحرص على وجودها

صنعة الأجداد

يتشارك الخمسيني محمد الحسن وعائلته من بلدة أبو حردوب -شرقي دير الزور- صناعة التنانير الطينيّة، ويعتمدها منذ سنوات كمصدر دخل، ومهنة موروثة من أجداده يحافظ عليها منذ أكثر من 35 عاماً.
ويُشير الحسن إلى أنه يجلب التربةً الحمراء لإنتاج التنانير ويقوم بخلطها مع التبن، ثم يُخمّر الطين لمدة تصل إلى يومين، ليتم بعدها العمل على صناعة التنور على عدة مراحل.
ينقل الحسن التنور إلى القرى والبلدات المجاورة لبيعه، وتتراوح أسعاره بين 30 ألف ليرة سورية و50 ألفاً، هو يرى السعر منخفضاً وغير مناسب مقارنة بالتعب الذي يتطلبه تصنيعه، لكن الأوضاع المعيشيّة للأهالي تجعله يبيعه بهذا السعر.

تراثٌ باق

وأكد الباحث في التراث المادي واللامادي المهندس غسان الخفاجي لـ”الحرية” أن الأحداث الداميّة التي مرت بها دير الزور وسورية عموماً أثرت بالكثير من المهن، مثل مهنة صناعة التنانير، غياب الزراعة والأوضاع المعيشية الصعبة جعلت وجهة الأهالي إلى المخابز الآلية: “غير أن لخبز التنور نكهته حتى الآن رغم غلاء سعر الرغيف منه والذي وصل إلى 800 ليرة، دير الزور المدينة تحتوي 8 مخابز، وعددها يتجاوز 10 في مدينة الميادين، كما يوجد منها في البوكمال، حتى في المدن كانت العوائل تحرص على وجوده ويوضع على السطح، التنور في دير الزور عموماً مثل أي حاجة أساسية في المنزل لابد من وجوده، الغلاء وقلة الطحين لعدم توسع زراعة القمح بفعل الأحداث جعلت اللجوء إليه أمراً نادراً، لكنه موجود وصناعته مستمرة على أمل تحسن الأوضاع وعودة الحياة الطبيعية بشكل أوسع “.
لا يقتصر عمل التنور على الخبز كما يبين الباحث الخفاجي، إذ كانت النسوة بدير الزور يُعددن حلويات الأعياد فيه مثل “الكليجة”، كذلك “المحمريّة” وتتكون من البصل والفليفلة الحارة التي توضع على رغيف الخبز وغيرها من أكلات كشي الباذنجان، كما يتم إعداد شاي الجمر -كما يُسمى محلياً- فيه، وله مذاق طيب لدى أهالي المحافظة.

Leave a Comment
آخر الأخبار