صندوق الجدة.. منهل الحكواتية التراثي

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- ميسون شباني:

لطالما كانت الحكاية حاضنة للخيال الطفولي، تطرّز خيالنا بألوان قوس قزح، وتأخذنا عبر عالم أخاذ مملوء بسحر الفن القصصي البديع.. نرسم شخوصاً، ونبدع في تجميلها ونتحفز للقائها. الحكاية التي انجدلت بشخصية الجدة التي كنا ننتظر قدومها ونسهر لأماسيها، وهي تروي حكايات الجن والعفاريت والشاطر حسن وست الحسن وعلي بابا والأربعين حرامي والزير سالم وأبو زيد الهلالي . حكايات تسربلت إلى ذاكرتنا بفن السرد المتقن وترويه الجدة بحنكة الحكّاء المحترف، وتنقلنا بإبداع الناسج الماهر لنرسم عالماً من الخيال الشعبي.

*عن الحكاية الأولى

كانت ليالينا وجلساتها صلتنا الأولى مع عالم الحكاية والخيال الشعبي وبحنكة الراوي تمزج بين الخيال والواقع لتقديم دروس أخلاقية وتعليمية، فتارةً تمجّد الأبطال والمعارك، وتارة تستعيد المآثر والقيم الإنسانية. حيث تستحضر بدهاء مشروع حكايا الحوريات، والجان، والعمالقة، وتستخدم أساليب الترهيب أحياناً، والترغيب لتخرجنا إلى العالم الواقعي المعاش من دون أن تنسى مفردات والوعظ الأخلاقي من خلال سرد قصص الأنبياء والأولياء والصالحين.
هكذا كانت البداية مع حكايا الجدة قبل مرور الزمن واتساع الدائرة والخروج من حيز العائلة إلى العالم وانتشار التكنولوجيا كانت الوجهة الثانية لمحبي الخيال الشعبي والموروث القصصي، تسير إلى حكواتي المقهى الذي يعدّ شكلاً جديداً ومطوراً عن حكايا الجدة وله مواصفات خاصة من حيث الحضور الذهني، والثقافة، والعلم، والشكل، واللباس، والفطنة، والحفظ، وإلقاء الشعر، وجذب المتلقين لحديثه، وكانت لياليه وسهراته وسيلة ترفيهية ومكاناً خصباً يسرح المتلقي فيه بخياله ولا ننكر دوره التثقيفي والتوجيهي.. فحكاياه تحض على الأخلاق، ونصرة المظلوم، ويعمد الحكواتي خلال سرد الحكاية إلى استخدام الحركة، والتلاعب بالمفردات والألفاظ، بحيث تبقى حواس الحضور متيقظة، فكان يقوم بتجسيد شخصيات روايته وكلامهم بتحريك يديه والتلاعب بنبرات صوته. لم يكن يكتفي برواية القصة فحسب، أو بقراءتها، بل يعمد إلى تأديتها بأدوار شخصياتها المتعددة، فكان وجهه يتخذ ملامح مختلفة حين تتغير الشخصية، وكان يغير طريقة جلوسه، وطريقة تلفته، ويغير صوته، فيبدو مسكوناً بشخصيات القصة كلها.

*عن مهنة الحكواتي

وبالعودة إلى مهنة الحكواتي فهي تعدّ شكلاً من أشكال الدراما التي تزدهر في أجواء رمضان، وهي من المهن التي كانت سائدة ومزدهرة في دمشق، وجاءت الدراما السورية بلهجتها الشامية، لتعزز من مكانة الحكواتي في بنائها الدرامي وتعزز من خلاله بعض من جوانب الحياة التي عاشها واختبرها رواد المقاهي. ويعدّ الحكواتي أكثر من مجرد راوٍ للقصص، فهو يمثل جزءاً من الهوية الثقافية والتراثية إضافة إلى كونها تحمل في طياتها أهمية اقتصادية متنامية في المجتمع السوري، ويقدم تأريخاً حقيقياً لحكواتية دمشق بدءاً من طريقة اللباس الذي يتراوح ما بين الطربوش الأحمر الغامق على الرأس والصدرية المصنوعة يدوياً والمليئة بالزركشات والمرفقة مع سروال شامي طويل، إضافة إلى الزنار الدمشقي والشال المترامي على الأكتاف من الحرير مع جاكيت عربي يسمى الدامر، ويسهم في إحياء قيم المحبة والتآلف بين الناس ولتتحول تلك القصص إلى مصدر إلهام، وانعكاس حقيقي لتجارب يتداخل فيها الألم والأمل، وحب الحياة، وكره الحرب، ولتصبح كل القصص والحكايات العربية والسورية واقعية، ترسم حقبة جديدة في الشفاهي والمكتوب رسمه واقعهم ومعاناتهم.

*تاريخ الحكاية

وبالعودة إلى التوثيق التاريخي لشخص الحكواتي يقول المؤرخ د.قتيبة الشهابي في كتابه “دمشق وتاريخ وصور” كانت القيامة تقوم في مقهى النوفرة إذا أنهى الحكواتي قصة عنترة بن شداد وأنهى كلامه، وابن شداد في السجن، وكم من رجل قرع باب هذا الحكواتي في منتصف الليل مطالباً إياه بتحرير البطل وفك أسره قبل طلوع النهار، وإلّا سيضطر المسكين إلى متابعة القراءة حتى يطلق سراح عنترة”.
أما عن قصة الزير سالم فيقول: “وكم من مرة كانت فيها الملاسنة تحتدم بين المتحزبين للزير سالم وآخرين لجساس، الأمر الذي ينتهي عادة ببضع صفعات ولكمات ويذهب عدد من الكؤوس والكراسي ضحية ذلك”.
وبسبب التطور التقني فقدت دمشق وجود الحكواتي إلّا فيما ندر، ولم يعد موجوداً في حياة السوريين وتم اختصاره بحالات الحنين والشوق لهذه الذكريات، بيد أنه لا يزال حاضراً في بعض المقاهي رغم كل التغييرات التي شهدتها دمشق في محاولة من الدمشقيين الحفاظ على ما تبقى من الهوية التراثية .

Leave a Comment
آخر الأخبار