الحرية- جواد ديوب:
تفاحة واحدة كانت كافية لتجعلني أسبح في غيمة ذكريات! ليستْ حلاوتها المُسكِرة التي انبجست من لبِّها وسالتْ على ذقني، ولا موسيقا “قَرشتها” الناعمة، ولا ملمسها، ولا لونها الإعجازيّ الخمريّ الملوَّح بالبرتقاليّ والأصفر… ليست كل تلك التفاصيل هي مَن فعل ذلك.. بل رائحتها! كأن الإنسانَ في أحد تعريفاته هو مزيجٌ من ذاكرة الروائح والأطعمة والأخيلة.. كأننا روائحُنا ولسنا فقط لونَ عيوننا وأسمائنا.
نسأل أستاذ الفلسفة يحيى زيدو: ماهي الرائحة العالقة في روحك ولا يمكن نسيانها؟
رائحة أبي!
الأستاذ زيدو يقول: “رائحةُ أبي لاتزال عالقة في ذاكرتي رغم رحيله منذ ما يقارب نصف قرن. ما زلت أذكر كيف كنتُ أهرع إليه وهو عائد من عمله لأشم رائحةَ عرقه التي لاتزال الرائحة الأقدس عندي! وثمة رائحة الأرض بعد مطرٍ أوّل، ورائحة خبز التنور في الصباح والمساء، تحيلني إلى طفولتي في القرية”.
أشعرُ بالأستاذ زيدو يتوقف عن الكلام متأثراً ثم يكمل:
“قال الروائي اليوناني “نيكوس كازنتزاكيس” على لسان “زوربا”: أعتقد أن لكل إنسان رائحة خاصة. روائحنا جميعاً تمتزج ببعضها فيتعذر علينا تمييزها ورَدُّ كلِّ رائحةٍ إلى صاحبها.. كل ما أعلمه أن الروائح في مجموعها تشكل رائحةً واحدة خبيثة نسميها: البشرية!.
الرائحة والألم!
ونجد في رواية المترجم عقبة زيدان «هيولى» مقطعاً عن تأثير الرائحة على كيانه، يقول الراوي فيها: كان في السادسة من عمره، عندما وقع وكُسرتْ يده. لا يمكنه نسيان الألم الرهيب بعد دقائق من الكسر(…) خرجتْ أمه على صراخه، وشاهدت يده المتدلية. صرختْ صرخة قوية واتجهت نحوه، ثم شرعت بالبكاء. هو يذكر تلك اللحظات بشيء من الخوف والرغبة، ذلك أن والدته عندها كانت تغسل الملابس، ولا تزال على يديها رغوة الصابون، حملته بين ذراعيها، وهرعت راكضة إلى الطبيب الشعبي في الحي المجاور. في الطريق، شعر بالطمأنينة، وأن ألمه قد تضاءل. كان ذلك مجرد شعور، لأن احتضان أمه له، غمره بالأمان. رائحة الصابون الخاص بالأم والاحتضان الحنون، ما زالا قابعين في ذاكرته، ولا يمكن محو هذه الحادثة الأليمة. لم يكن الألم بعد هذا الزمن، نتيجة الكسر، لأن الأمر قد ولّى منذ زمن بعيد، وأصبحت حادثة الكسر، التي يمتَنُّ لها أحياناً، شيئاً لتذكُّرِ الألم فقط. إنها ذكرى الأم، عن طريق استحضار رائحة الصابون المميزة لها، واليدين الرطبتين اللتين تحيطان بجسده الصغير المرتجف.”!
لكل عمل عظيم رائحة خاصة!
ونعاود سؤال الأستاذ زيدو : سوى رواية “العطر” الشهيرة، هل من أدبٍ (رواية، شِعر، نثر…) لفتَ دهشتَك إلى عالم الروائح الغريب؟
يجيب: قد تستغرب أنّي لم أقرأ رواية العطر لـ”زوسكيند” ربما بسبب شعبويّتها، أو لكثرة ما تم تبجيلها في الإعلام، لكن هناك رواية” تلك الرائحة” للمبدع المصري صنع الله ابراهيم، فالرائحة عندَه ارتبطت بالسجن والاعتقال وغرف التوقيف، وقد أبدع في وصف الدم الذي يلوث الأجساد والجدران بسبب عض البق والجوع، والعنف والانحراف الجنسي، ففضاء السجن عنده هو فضاء الروائح الكريهة والعفونة التي ستلاحق بطل الرواية حتى وهو خارج السجن. وهناك “رائحة الأنثى” للأديب الليبي أمين الزاوي، ورواية “تل اللحم” للعراقي نجم والي، لكن ثمة كتابات أخرى عن الرائحة تحيل إلى البهجة كما في نصوص الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب الذي تفوح في كتاباته روائح الطيّون والزعتر البري والغار والبطم والزيتون والحبق”.