الحرية – مها سلطان:
ليس هناك أصعب وأقسى من أن يعيش طفل، أي طفل، حياة معتقل وهو لم يتجاوز الـ14 من عمره ويخضع للتعذيب والضرب والمبرح، وكل أنواع الشتائم والتهديد والمخاوف.
بالتوازي ليس هناك أصعب أو أقسى من أن يعيش أهل هذا الطفل، أي طفل، أياماً وأشهراً وسنوات لا يعرفون مصير طفلهم، ويكابدون أشد المخاوف على حياته، ولا يتركون وسيلة إلا ويلجؤون إليها في سبيل تحريره ورؤيته سالماً، رغم أنه من الصعوبة بمكان أن يخرج أي معتقل، خصوصاً إذا كان طفلاً، سليماً من آثار الاعتقال وما يرافقه من ظلم وتعذيب.
لم يفرق النظام البائد في معتقلاته بين صغير وكبير، رجل أو امرأة. بالنسبة له كان كل من يَخرج عليه مطالباً بالكرامة والحرية سواء بسواء، لا يتوانى عن زجه في أعتى ما أقامه من سجون ومعتقلات، ودائماً تحت الذرائع نفسها، حماية البلاد والعباد، مسوغاً لنفسه ارتكاب أفظع الجرائم بحق السوريين.
أسماء لمعتقلين بالآلاف خرجت للعلن مع سقوط النظام قبل شهرين، انتصرت الثورة وتحررت سوريا وبدأت القصص تتواتر، ولا تزال، لتكشف بالشهود والأدلة ما اقترفه هذا النظام من جرائم يندى له جبين البشرية.
كان بلال سكيف واحداً من هذه الأسماء من جهة.. ومن جهة ثانية كان ضمن مئات الأطفال الذين زج بهم النظام في المعتقلات لمجرد أنهم خرجوا إلى الشوارع يعبرون عن آرائهم ويطالبون بالكرامة والحرية.. وذلك في شهادة «بودكاست» قدمها بعد التحرير.
بلال سكيف بالكاد أتم 14 ربيعاً عندما تم اعتقاله مع طفل آخر كان قابله في أحد أحياء مدينة حلب بعد انتهاء مظاهرة ذلك اليوم، وكان سكيف مشاركاً فيها. تم توقيفه من قبل دورية أمنية مع ذلك الطفل الآخر. ثم زجه في السجن لأيام عدة لم يتوقف خلالها لا الضرب المبرح، ولا الإهانات، ولا التهديدات.
لم يكن لأهل بلال سكيف أن يعرفوا ماذا حلّ بطفلهم لولا أن اختار العنصر الأمني الذي كان يتولى ضرب سكيف أن يرد على أخيه الكبير الذي كان يتصل بإلحاح على هاتف أخيه الصغير بلال، ليخبره العنصر أنه معتقل وألا يعاود الاتصال به.
هكذا ومن دون سابق تمهيد، أو إخطار لأهله، أو مراعاة لكون بلال ما يزال طفلاً.. من دون أن يقيموا أي اعتبار للإنسانية والطفولة، اعتقلوه وزجوا به في السجن. تركوا أهله نهباً لأقصى حد من القلق والمخاوف، ومن انعدام الحيلة والوسيلة لمعرفة مصير طفلهم، والسعي إلى تخليصه.
يتحدّث بلال سكيف في شهادته عن مشاهداته خلال الاعتقال. لقد كان شاهداً حياً على مآسي المعتقلين وما يتعرضون له من تعذيب وذل، مثلما حدث معه، وبعضهم كان كبيراً في السن لكنه لم يسلم من التعذيب والضرب المبرح.. وأحدهم شهد مقتل والده على يد عناصر حاجز في ريف حلب حيث تم توقيفهما، ولأن الوالد لم يرضخ لأمر اعتقال ولده، وقاوم وواجه، ما كان من عناصر الحاجز إلا أن اطلقوا الرصاص عليه، فقضى أمام عيني ولده.
رفض والد بلال سكيف دفع رشاوى مقابل إخلاء سبيل طفله، ربما أراد اختبار مدى عزيمته ومدى قناعته وإيمانه بالهدف الذي يشارك به في المظاهرات، وأيضاً مدى صموده ومواجهته للأزمات، لم يُردْ الوالد أن يكون مشاركاً أو جزءاً- ولو كرمى فلذة كبده – في فساد نظام وظلمه. هذا النظام الذي كان من أشد معارضيه وكان مطلوباً له، وربّى طفله بلال على رفض هذا النظام وفساده، ولاحقاً على مواجهته عملياً في الشوارع والساحات سعياً لإسقاطه.
يتحدث بلال سكيف عن محيطه الذي كان يلومه على خروجه للتظاهر، وحتى يلومه على اعتقاله وتحميله مسؤولية ذلك، على اعتبار أنه ما زال طفلاً ولا دخل له بما يجري، وعليه ألا يشارك مخربين ومأجورين خرجوا على الدولة التي من حقها أن تدافع عن نفسها، كانوا يقولون «عايشين بأمان» و«ما حدا كان ينام جوعان».. هذا ما كانوا يقولونه.
يقول بلال إن هذا المحيط بردة فعله هذه، كان أمراً قاسياً جداً يعادل قساوة الاعتقال وظلمه، وربما كان بلال يجد مبررات لهؤلاء حيث كان الخوف سيد الموقف دائماً في ظل القبضة الأمنية التي كانت تحكم البلاد والعباد والتي تضاعفت سطوتها مع اندلاع الثورة بداية عام 2011.
لم يكن يعنيه كل ما يقولون. لقد كان على إيمان مطلق بعدالة القضية التي يخرج من أجلها، والتي انضم لاحقاً إلى الجيش الحر، من أجلها وهي اسقاط النظام وتحرير البلاد. يقول إن المسألة ليست مسألة طعام وشراب، بل مسألة كرامة.. كان ينقصنا الكرامة. هذا ما كنا نريده وما خرجنا لأجله، وقد نلناها ونلنا الحرية والحمد لله.
جاءت المساعدة لبلال سكيف من حيث لم يكن يَحتسب، كانت هناك مجموعة من المحامين الذين يطلقون على أنفسهم المحامين الأحرار، يعملون على القضايا التي تخص الثوار ولكن من دون إعلان. يساعدون المعتقلين، ويدلونهم على طرق لتخليص أنفسهم إذا لم يستطيعوا هم تخليصهم.
وهو ما حدث مع بلال عندما تقدم منه أحد هؤلاء ودلّه على طريق «إخلاء السبيل» من خلال وضع القاضي – المكلف النظر في قضيته – أمام حقيقة اعتقاله رغم أنه طفل، وتعرضه لأشد أنواع التعذيب والضرب المبرح رغم أنه طفل، وتم استخلاص الاعترافات منه تحت التعذيب حيث تجاهل الجلادون أنه ما يزال طفلاً، كشف بلال عن جسده أمام القاضي ليؤكد ما تعرض له، لقد بدا للقاضي صدق ما يقوله، فآثار التعذيب لا يمكن إخفاؤها، وجروحه ما تزال تنزف.. وهكذا قرر إخلاء سبيله.
كان النظام يتوهم غالباً أنه بهذه الاعتقالات والوحشية التي يُعامل بها المعتقلين، يستطيع إسكاتهم، وتخويفهم إلى الدرجة التي لا يُبارحون فيها منازلهم.. إلى درجة الخوف من ظلهم وتخويف الآخرين بهم، بل ترهيبهم عندما يسمعون بما يتعرض له المعتقلون من وحشية في التعذيب والترهيب.
لكن هذا لم يكن يحدث، غالباً ما كان المعتقلون يخرجون أشد اصراراً وعزيمة، لينخرطوا في ساحات النضال/القتال، وليس في ساحات التظاهر فقط، يقول بلال سكيف: خرجت من المعتقل أشد معارضة ورفضاً لهذا النظام الذي كنت أسمع عن وحشيته حتى عشتها، وأشد عزماً على محاربته حتى يسقط.. كانت الفاتورة عالية وغالية، لكننا نلنا الكرامة والحمد لله.