الحرية – نسيم عمران:
في عصرِ التّحوّلاتِ السّريعةِ، لم تعُد العملاتُ الرّقميّةُ مجرّدَ مفاهيم تكنولوجيّة، بل أصبحتْ أدواتٍ فعّالةً تُعيدُ تشكيلَ الأنظمةِ الماليّةِ في العالم. وبينَ التّبنّي الحذرِ والرّفضِ الصّارمِ، تبرزُ الحاجةُ إلى فَهمٍ عميقٍ لدورِ هذه العملاتِ في الاقتصاداتِ الوطنيّةِ، وخاصّةً في دولِ الشّرقِ الأوسطِ والخليجِ، مع تسليطِ الضّوءِ على المخاطرِ والفُرصِ في المدى المنظورِ.
البلدانُ السبّاقة
تشهدُ العملاتُ الرّقميّةُ توسّعاً مُطّرداً في التّداولِ، ويُلاحظُ أنّ دولًا عدّةً قد دخلتِ الميدان، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من التّنظيمِ والمُساءلةِ، ومنها.. الولاياتُ المُتّحدةُ، أهم مركزٌ عالميّ للتّداولِ، وتُعدّ بورصةُ “كوين بايس” نموذجاً أمريكيّاً لتقنينِ الأصولِ الرّقميّةِ.
ثم ألمانيا وسويسرا و تتعاملانِ مع العملاتِ الرّقميّةِ كأصولٍ قانونيّةٍ خاضعةٍ للضّريبةِ.
أيضاً السّلفادور وهي أوّلُ دولةٍ تتبنّى “البيتكوين” كعملةٍ رسميّةٍ.
في المضمار العربي تأتي الإماراتُ العربيّةُ المُتّحدةُ، وهي من أكثرِ دولِ الخليجِ انفتاحاً على البنيةِ التّحتيّةِ للرّقمنةِ الماليّةِ، وقد أطلقتْ “منطقةَ أبوظبي الماليّة” إطاراً تنظيميّاً شاملاً.
ومن الدول أيضاً.. أوكرانيا (تشريعٌ للاستخدامِ والتّداولِ).
و البرتغالُ (سياساتٌ ضريبيّةٌ مُشجّعةٌ).
و سنغافورة (رؤيةٌ استثماريّةٌ وبيئةٌ تنظيميّةٌ مرنةٌ).
في دولُ الخليجِ والشّرقِ الأوسط
يُمكنُ القولُ إنّ الاهتمامَ بالعملاتِ الرّقميّةِ في المنطقةِ لا يزالُ يتفاوتُ حيث إنّ دولة الإمارات تقودُ المنطقةَ في التّنظيمِ والابتكارِ، وتسعى إلى التحوّلِ إلى مركزٍ عالميٍّ لتقنياتِ البلوكتشين في حين نجد أنّ السّعوديّة تدرسُ إصدارَ “ريالٍ رقميٍّ” عبرَ البنكِ المركزيّ بينما في قطرُ والكويتُ نلاحظ أنّ الدّولتين تتحفّظانِ حاليّاً، مع وجودِ دراساتٍ رقابيّةٍ مكثّفةٍ ، وفي حين نجد الكثير من التّحذيرات في جمهورية مِصر التي تُحذّرُ من التّداولِ خارجَ النّطاقِ القانونيّ، مع مراقبةِ الاستخداماتِ غيرِ المشروعَةِ.
لذلك يُتوقّعُ أن تلعبَ دولُ الخليجِ دورًا أكبرَ في مجالِ العملاتِ الرّقميّةِ في السّنواتِ الخمسِ القادمةِ، وخاصّةً مع التّحوّلِ نحوَ “الاقتصادِ غيرِ النّقديّ”.
دور اقتصادي
رغمَ التّقلباتِ الحادّةِ، فإنّ الأثرَ الاقتصاديَّ للعملات الرقمية بات واضحاً..
في جذبُ الاستثماراتِ الخارجيّةِ: خاصّةً عبرَ مشاريعِ الطّرحِ الأوّليّ (ICO).
و تحفيزُ الابتكارِ الماليّ، كالعقودِ الذّكيّةِ وتمويلِ المشاريعِ عبرَ “البلوكتشين”.
ثم خلقُ وظائفَ رقميّةٍ في مجالاتِ التّقنيةِ والأمنِ السّيبرانيّ.
و تسريعُ التّحوّلِ الرّقميّ للدّولِ السّاعيةِ نحو الاقتصادِ المعرفيّ.
ومع ذلك، فإنّ غيابَ إطارٍ ماليٍّ وقانونيٍّ شاملٍ في أغلبِ الدولِ العربيّةِ يُحدُّ من التّأثيرِ الفعليّ.
الغشُّ في عالمِ التّشفير
يُعتبرُ الغشُّ من أكبرِ المخاطرِ التي تُهدّدُ مصداقيّةَ العملاتِ الرّقميّةِ من خلال مخطّطاتُ النّصبِ الهرميّةُ: التي تُغري المستثمرينَ بربحٍ سريعٍ.
كما أن هناك ملايينُ الدّولاراتِ تُسرقُ من محافظِ ومنصّاتٍ غيرِ مؤمّنةٍ.
إلى جانب التّلاعبُ بالأسواقِ من خلالِ فرقٍ تُمارسُ ضغوطاً وهميّةً على الأسعارِ.
ومن هنا تحتاجُ الحكوماتُ إلى بناءِ تشريعاتٍ واضحةٍ لمكافحةِ هذه الظّواهرِ، بالتّعاونِ مع الشّركاتِ الرّقميّةِ العالميّةِ.
في البلدانُ النّاميةُ
في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة، ظهرتْ العملاتُ الرّقميّةُ كحلولٍ بديلةٍ لـ:
الهروبِ من التّضخّمِ: كما في فنزويلا والأرجنتين.
وتحويلِ الأموالِ بأسعارٍ أقلّ.
ودمجِ غيرِ المتعاملينَ مع البنوكِ في الاقتصادِ الرّقميّ.
إلّا أنّ ضعفَ البنيةِ التّحتيّةِ، وقصورَ التّشريعاتِ، يظلّانِ عقبتينِ كبيرتينِ.
الخطورةُ في المدى المنظور
من منظورٍ استراتيجيّ، تُواجهُ العملاتُ الرّقميّةُ تحدّياتٍ جدّيّةً، مثل عدمُ الاستقرارِ السّعريّ، ممّا يُعيقُ استخدامها كعملةٍ حقيقيّةٍ.
إلى جانب مخاطرُ غسلِ الأموالِ وتمويلِ الإرهابِ.
و الإدمانُ الماليّ للمضاربةِ بينَ الشّبابِ في غيابِ التّثقيفِ الماليّ.
و الاستهلاكُ الطّاقيُّ الهائلُ في التّعدينِ (خاصةً البيتكوين).
وبينما تسعى بعضُ الحكوماتِ لابتكارِ عملاتٍ رقميّةٍ رسميّةٍ (CBDC)، يبقى المستقبلُ مرهوناً بتنظيمٍ عادلٍ وشفّافٍ، يدمجُ التّقنيةَ في الاقتصادِ الحقيقيّ دونَ المساسِ بالاستقرارِ السّياسيّ والنّقديّ.
في الأفقِ الرّقميّ
إنّ العملات الرّقميّة ليستْ مجرّدَ “موضةٍ ماليّةٍ”، بل هي تحوّلٌ جذريٌّ في المفاهيمِ الاقتصاديّةِ، يتطلّبُ من دولِنا العربيّةِ أن تنتقلَ من موقعِ الرّقابةِ السلبيّةِ إلى صناعةِ التّشريعِ الذّكيّ. في المدى المنظورِ، لن يكونَ البقاءُ للأقوى، بل للأكثرِ وعياً وتنظيماٍ.