عن الكتابة والكتّاب… والكلمات العصيّة على الوجود

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – لبنى شاكر:
طاولةٌ وكرسيٌ، فقط، مطلوبان لتبدأ الكتابة بشكلها العام، في حين تبدو احتياجات الكتّاب غير مفهومةٍ أحياناً، بعضهم يحتاج هدوءاً وكثيراً من التنظيم حوله، بينما يُفضل آخرون الحصول على مكانٍ مُخصص لهم في مقهى أو غرفة فندق أو مقعدٍ في حديقةٍ عامة، وهناك من يلجأ إلى السفر، مُبتعداً عن كل ما يعرفه من وجوهٍ وأمكنة، باحثاً عن أجواءٍ لم يألفها، أو يُمكنه اكتشاف تفاصيلها، بدل البحث عما يخض تفكيره في حياةٍ خبرها جيداً، حتى إنه لم يعد قادراً على استنبات حيواتٍ جديدة منها، إلى ذلك، كان البيت مكاناً مُقدساً لروائيين وشعراء يعودون إليه، مهما طال الابتعاد، وتعددت الوجهات.

الكتابة تُبنى بالتدريب، تتصاعد وتتكشّف بأخطاء الكاتب ومغامراته وتجاوزاته على الورق، ولهذا سماها البعض “عملاً مُنظماً” يبدأ وينتهي ويتلون

ربما، تحتاج الكتابة “موهبة” أو قُدراتٍ ما، تجعل من صاحبها مُختلفاً عمن حوله ومُؤثراً فيهم، في الوقت نفسه. لكن، ما يُمكن قوله بالتأكيد إنّ الكتابة تُبنى بالتدريب، تتصاعد وتتكشف بأخطاء الكاتب ومغامراته وتجاوزاته على الورق، ولهذا سماها البعض “عملاً مُنظماً” يبدأ وينتهي ويتلون، إشارةً إلى الفرق بينها، وكتابات الهواة والبوح والفضفضة، وما لا يُمكنه تجاوز الثرثرة ومخاطبة النفس، وهو ما يجعل من عملٍ أدبي ما عابراً للزمان والمكان، بينما ينكفئ آخر، على محدوديةٍ تدفع به، شيئاً فشيئاً، نحو النسيان.. فرقٌ كبير ينسحب بطبيعة الحال على الكتابة السهلة التي تدّعي أن مصدرها الإلهام، والذي بالغ البعض في تسطيحه، فكتبوا رواياتٍ وسيناريوهاتٍ وغيرها على قياساتٍ وُضِعت سلفاً.
الرفاهية والرغبة والامتلاء والحزن، احتياجاتٌ بمرتبةٍ أولى، يُضاف إليها التفرغ والنزق والغضب، ومن ثم لا يعني تحقق الشروط واللوازم، تدفقاً في الكتابة، بل ربما تبدو الكلمات عصيةً على الوجود، أو غير موجودةٍ أصلاً، إلى أن تكتمل الفكرة في الذهن، وتنضج كما يجب، وريثما يكون، ستمر ساعاتٌ وأشهرٌ وأعوامٌ لِتولد مراتٍ ومرات مع قراءٍ آخرين، وهنا احتياجٌ يصعب تجاوزه، مهما كانت الكتابة رديئةً أو ساذجةً أو متواضعة، فهي تنتظر ميزاناً ما، عيوناً وأيادي تُقلِبها وتتأملها، وإلى ذلك فالشغف أصيلٌ عند الكتّاب، بما يعنيه من قبولٍ بالتحديات على اختلافها، بدءاً من امتلاك المقدرة على الكتابة، وانتهاءً بتقييمات القرّاء.
في ميدان تعليم الكتابة أو لنقل التوجيه نحو خطواتها الأولى، بالضبط، يأتي كتاب “عن الكتابة… مذكرات عن الحرفة” للروائي الأمريكي ستيفن كينغ، الذي يدمج فيه بين السيرة الذاتية والدليل العملي، حتى إنه يُكاشف قرّاءه بمحاولاته الأولى مع القصة حتى نجاحه مع رواية Carrie ، ثم يفتح ما يسميه “صندوق الأدوات”، بدءاً من وضوح اللغة وقوة المفردة والانضباط في صياغة الجملة، وصولاً إلى ما يصفه بالنصائح العملية للكتابة، وأبرزها أنّ القراءة والكتابة اليوميتن هما سر التطور، وأن المسودة الأولى يجب أن تُكتب بلا خوف، بينما تأتي المسودة الثانية للتحرير والصرامة، وفي السياق ذاته، يُشارك تجربته مع حادث سير خطير، وكيف ساعدته الكتابة على التعافي جسدياً ونفسياً.

كثيراً ما تبدو الكلمات عصيةً على الوجود، أو غير موجودةٍ أصلاً، إلى أن تكتمل الفكرة في الذهن، وتنضج كما يجب

ما يميز الكتاب هو أسلوب كينغ المباشر والبعيد عن التنظير، فهو يدعونا لنفعل مثله، أن نكتب كما نتحدث مع صديق، ببساطة ومن دون ترتيب، فإذا كانت الكتابة كما يقول قراراً والتزاماً يومياً، فهي أيضاً مغامرة حياة، ننتبه فيها للأشياء من حولنا، نُسجل التفاصيل الصغيرة، ونترك الأمور تسير من تلقاء نفسها، تماماً كما يجب على الورق، بصوتنا وكلماتنا العادية، اليومية، قبل أن نسعى لنقل نصوصنا من العفوية إلى التكامل والتأثير، بإعادة صياغتها وتحريرها، بحيث يتحول الموقف العادي، والحوار القصير أو الوصف لحركة صغيرة، إلى تجربة سردية شائقة، تستحق أن يقرأها إنسانٌ آخر.

Leave a Comment
آخر الأخبار