الحرية- بشرى سمير:
في السابع عشر من نيسان من كل عام، اعتاد السوريون أن يستذكروا يوماً مجيداً في تاريخهم، يوم خرج آخر جندي فرنسي من أرضهم عام 1946، لتنطلق سوريا الوليدة بخطا الأمل، قبل أن تزلّ بها أقدام العسكر والانقلابات. لكن نيسان هذا العام ليس كأي نيسان. إنه أول عيد جلاء تحت سماءٍ خلت من طائرات النظام البائد، وأرضٍ لم تعد تدوسها أقدام المخابرات، وقلوبٍ تحررت من قبضة الخوف بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول 2024، في لحظة لا تقل أهمية عن خروج المستعمر الفرنسي نفسه.
الدكتور عماد سعيد من قسم التاريخ في جامعة دمشق قال: هذا العام، يُحيي السوريون عيد الجلاء وقد تحقّق الجلاء الثاني.. جلاء الاستبداد، وجلاء الأجهزة الأمنية، وجلاؤهم عن حلم الإنسان السوري بأن يعيش حرّاً فوق أرضه، سيداً على قراره
شعب لا يُقهر
وأضاف سعيد” حين قاوم السوريون الاستعمار الفرنسي، لم يكن بين أيديهم سوى بنادق بدائية، وإيمان عميق بوطنٍ لم يولد بعد. من جبال اللاذقية إلى سهول إدلب، ومن غوطة دمشق إلى بادية السويداء، تشكّلت الثورة السورية الأولى ضد الاحتلال، وكان من قادتها المجاهد إبراهيم هنانو في إدلب، وحسن الخراط في دمشق.. لكن الاستعمار، رغم رحيله، خلّف فينا شبحاً أبشع.. نظاماً قمعياً نشأ بعد الاستقلال وبلغ أوجه في عهد الأسد الأب، ثم تحوّل إلى منظومة قتل وتدمير على يد الأسد الابن.. لم يكن مجرد نظام حكم، بل نظام أقام دولته على الخوف والاعتقال والتصفيات والتهجير الطائفي والتدخل الخارجي، وحين انفجرت الثورة في 2011، لم يكن الهدف إسقاط رئيس، بل كسر بنية استبدادية عمرها عقود، واستعادة وطن حقيقي، لا سجن كبير.
إدلب والغوطة
قلب الثورة النابض وساحات الشرف في كل مراحل النضال السوري، كانت إدلب والغوطة اسمين لا يُمكن تجاوزهُما. إدلب، التي كانت مهد مقاومة هنانو ضد الفرنسيين، تحولت في الثورة الحديثة إلى المعقل الأخير الحرّ، والقلعة التي استعصت على النظام وحلفائه، رغم مئات الغارات والتدخلات.. فيها كُتب شعار “سوريا لا تنحني”، ومنها انطلقت بيانات الثورة، وصيحات أهالي كفرنبل الذين جسّدوا بعباراتهم الساخرة روح الثورة وعمق وعيها السياسي.
ولفت الدكتور سعيد إلى أن إدلب لم تكن فقط ساحة معركة، بل كانت مساحة حرية، احتضنت الإعلاميين والأطباء والمعلمين والمثقفين، حين لم يعد لهم مكان في سوريا الأسد.. أما الغوطة، تلك البقعة الخضراء المحيطة بدمشق، فقد كانت خنجراً في خاصرة النظام. لسنوات، حاصرها بالحديد والنار، قصفها بالسارين والكيميائي، جوّع أطفالها، لكنه فشل في كسر إرادتها، صمدت الغوطة لتُثبت للعالم أن الشعب السوري لا يُركع، وأن من يسكنون الكهوف تحت الأرض، قد يكونون أحراراً أكثر من يسكنون القصور فوقه
الجلاء الثاني
حين سقط النظام السوري في نهاية عام 2024، بعد انهيارات متسلسلة في مواقعه، وخروج دمشق عن سيطرته، لم يكن ذلك فقط انهيارا لسلطة سياسية، بل تحرراً عميقاً من كابوس دام نصف قرن. سقط النظام، وسقط معه جهاز كامل من القهر والكذب والدم، انهار إعلامٌ كان يزوّر الحقيقة، وأجهزة أمنية كانت تمحو الناس من الوجود، سقط النظام، وبقيت إدلب والغوطة، بقيت درعا والباب ورأس العين، وبقي ملايين السوريين الذين لم يساوموا ولم يستسلموا، حتى وهم تحت الركام. واليوم، ونحن في نيسان 2025، نقف على أنقاض الديكتاتورية، نحاول أن نبني وطناً من جديد، على أنقاض الخراب، لا حقد فيه، ولا انتقام، بل دولة قانون، وعدالة انتقالية، تحاسب من قتل، وتُعيد الحقوق لمن سُلبت منهم، فالحرية لا تُعطى.. بل تُنتزع.
وأضاف: الدرس الكبير من عيد الجلاء هذا العام أن الحرية لا تُمنح من الخارج، ولا تُوهب من الطغاة، الحرية تُنتزع من بين أنياب الدبابات، ومن تحت أنقاض البيوت المقصوفة.. تنتزعها أمٌّ تبحث عن جثة ابنها في المعتقل، وشاب يُهَرِّب كتب الفلسفة إلى المناطق المحررة، وطبيب يُجري عمليات في قبو بلا كهرباء، وإعلامي يكتب بياناً للحرية في لحظة اختناق.. لقد كتب السوريون جلاءهم الثاني بدمهم، لا بالحبر. وكل شهيد، كل معتقل، كل مهجّر، شارك في صناعة هذا اليوم.
وختم الدكتور سعيد حديثه بالقول: لا عودة إلى الوراء في نيسان 2025، ولأول مرة منذ عقود، يمكن للسوري أن يقول “أنا حر” من دون أن ينظر خلفه. وبالتأكيد الجلاء ليس نهاية الطريق. إنه بدايته. فالثورات الحقيقية لا تنتهي بإسقاط النظام، بل بإقامة نظام جديد، إنساني، عادل، يمثل كل السوريين، بلا تمييز، بلا إقصاء، بلا كراهية. وهذه مهمة الجيل الجديد… أبناء إدلب والغوطة، من بقوا ومن عادوا، من دفنوا شهداءهم ومضوا إلى الغد.. سوريا، أخيراً، تنفست حرّيتها.. والجلاء اليوم، ليس مجرد ذكرى، بل بداية وطن.