الحرية- هناء غانم – رشا عيسى:
مع تزايد الاهتمام الدولي والوطني بإعادة إطلاق عمليات التخطيط التنموي في سوريا، يعود ملف إنتاج البيانات ومعالجتها ونشرها إلى الواجهة بوصفه حجر الأساس لأي عملية بناء مستقبلية. فعلى مدى سنوات طويلة، عانت سوريا من فجوات كبيرة في البيانات، وتراجع في القدرة على جمع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، ما أثر بشكل مباشر في جودة القرارات والسياسات العامة.
وتصدر جدول أعمال اليوم الثاني، لورشة العمل التي جمعت عدداً من الخبراء السوريين، ومسؤولي الأمم المتحدة والتي أطلقتها هيئة التخطيط والإحصاء، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) في فندق الداما روز ، فجوة البيانات والمؤشرات المنبثقة عنها وانعكاساتها في إعداد التقارير الوطنية والخطط التنموية وإشكالات تدفق البيانات واستخداماتها في سوق العمل، و برزت رؤية مشتركة تؤكد أن المرحلة المقبلة لا يمكن أن تنجح من دون بناء منظومة بيانات وطنية موثوقة، شفافة، ومتماسكة، تتماشى مع المعايير الدولية.
الرقم الإحصائي إلى الواجهة …لا تخطيط بلا بيانات موثوقة
ربط البيانات بأهداف التنمية المستدامة
يشدد توفيق نحلاوي، مسؤول إدارة البيانات ومتابعة النتائج في مكتب المنسق المقيم للأمم المتحدة في سوريا، على أن وكالات الأمم المتحدة العاملة في سوريا جعلت من ملف البيانات محوراً أساسياً في خططها، وخصوصاً تلك المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة الـ 17.
ويقول نحلاوي في تصريح لـ” الحرية”: إن المرحلة الحالية تشكل “نافذة مهمة” لإطلاق عمل تنموي قائم على الأدلة، بعد سنوات كان فيها إنتاج البيانات محصوراً أو محدوداً بسبب الأوضاع العامة.
ويوضح أن الأمم المتحدة تعمل مع هيئة التخطيط والتعاون الدولي، والوزارات المعنية، والمنظمات الدولية غير الحكومية، والجمعيات المحلية، لبناء أرضية مشتركة من البيانات تساعد جميع الشركاء على العمل وفق رؤية واحدة واضحة.
ويضيف أن التعاون القائم اليوم بين هيئة التخطيط والإحصاء والوكالات الأممية، ولاسيما اليونيسف، بدأ ينتج خطوات ملموسة مثل تطوير الاستبيانات، اعتماد تصنيفات دولية موحدة، والاستعداد لتعداد عام سيكون الأول من نوعه منذ عقود، وهو ما يشكل نقلة نوعية في العمل الإحصائي.

أكبر التحديات
الدكتور شامل راتب بدران أكد في تصريح لـ”الحرية” أن فجوة البيانات الإحصائية في سوريا تمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه إعداد التقارير الوطنية والتخطيط التنموي، فغياب البيانات المنتظمة، وضعف تدفق المعلومات بين المؤسسات، ونقص التصنيفات الدولية المحدثة، كلها عوامل تؤدي إلى صعوبة قياس الواقع الاقتصادي بدقة.
وأشار الدكتور بدران إلى أن المؤشرات الاقتصادية لا يمكن بناؤها دون بيانات موثوقة، وأن جودة التخطيط تعتمد مباشرة على جودة الإحصاءات، خاصة في ظل الحاجة الملحة لإعداد تقديرات دقيقة للحسابات القومية، ويخلص إلى أن ردم فجوة البيانات يتطلب تحديث المنهجيات الإحصائية، تعزيز التعاون بين منتجي البيانات ومستخدميها، وتفعيل الأنظمة الرقمية لإنتاج بيانات أسرع وأكثر موثوقية، باعتبارها الأساس لأي تنمية مستقبلية ناجحة.
غياب البيانات أعاق التخطيط لعشرين عاماً
من جانبه، يسلط الباحث الاقتصادي الدكتور محمد أكرم القيش الضوء على التحديات التي واجهت عملية إنتاج البيانات خلال السنوات الماضية، مؤكداً أن ما تم عرضه في الورشة يمثل “جلسة تذكير ضرورية” بما تحقق سابقاً، تمهيداً للانتقال نحو المرحلة الأهم وهي استخدام البيانات في التخطيط واتخاذ القرار.
ويشرح القيش أن العديد من البيانات خلال السنوات السابقة كانت تُجمع عبر الهاتف، أو بطرق غير منهجية، وهو ما جعلها غير صالحة للنشر أو للاستفادة منها، الأمر الذي أحدث فجوة كبيرة بين الواقع والبيانات المتاحة للجهات الرسمية والخبراء والباحثين.
ويكشف أن فجوات المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية قد تصل إلى 60%، نتيجة غياب الإنتاج المنتظم للبيانات الوطنية، وهو ما ينعكس مباشرة على الخطط الحكومية التي تحتاج إلى حقائق واضحة لاتخاذ قرارات فعّالة.
كما يستشهد القيش بتجربة التعداد العام للسكان لعام 2004، الذي لم تُستثمر بياناته بشكل فعلي إلّا بعد نحو خمس سنوات، معتبراً ذلك مثالاً واضحاً على ضعف استثمار البيانات في الماضي، وهو ما يجب تغييره في المرحلة المقبلة عبر إستراتيجية وطنية متكاملة للعمل الإحصائي.
إستراتيجية وطنية لإنتاج بيانات دقيقة ومتاحة للجمهور
يرى القيش أن المشروع الجاري لإعداد إستراتيجية وطنية للإحصاء يُعد “مشروعاً جباراً وواعداً”، سينقل العمل الإحصائي من مستوى جمع البيانات التقليدي إلى مستوى أكثر مهنية ووضوحاً، وتقوم هذه الإستراتيجية على ثلاثة مبادئ رئيسية:
1. دقة البيانات وموثوقيتها
2. جمع البيانات بمنهجية واضحة ومعايير ثابتة
3. إتاحة البيانات للجمهور والباحثين بما يعزز الشفافية ويدعم اتخاذ القرار.
ويؤكد أن الوصول إلى بيانات دقيقة وشفافة هو شرط أساسي لتحسين مستوى المعيشة وتوجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية نحو الاحتياجات الحقيقية للمواطنين.
نقص البيانات يمنع تصميم سياسات عادلة
الدكتورة أميرة أحمد، مديرة برامج النوع الاجتماعي في صندوق الأمم المتحدة للسكان، ركزت على جانب آخر يعدّ بالغ الأهمية، وهو البيانات المصنّفة حسب النوع الاجتماعي، وتوضح لـ ” الحرية” أن هذه البيانات ليست ترفاً، بل أساسٌ لأي سياسات عادلة وشاملة.
وتقول إن التخطيط السليم يبدأ من جمع البيانات، ثم تحليلها، فتصميم السياسات، وصولاً إلى قياس الأثر، لكن غياب البيانات المصنّفة يجعل هذه السلسلة غير مكتملة، وبالتالي تصبح السياسات “عمياء” وغير قادرة على تلبية احتياجات المجتمع.
وتضيف أن فهم احتياجات فئات مختلفة مثل النساء، الرجال، الأطفال، كبار السن، الأشخاص ذوي الإعاقة، والأسر التي تعيلها نساء—يساعد في تصميم تدخلات أكثر فعالية، ويضمن أن تكون الاستجابة شاملة ولا تستثني أحداً.وتدعو إلى تعزيز القدرات الوطنية في تحليل البيانات من منظور النوع الاجتماعي، حتى تكون الخطط التنموية انعكاساً حقيقياً لاحتياجات المجتمع بكل فئاته.
البيانات حجر الزاوية للتعافي والتنمية
يتفق الخبراء على أن المرحلة المقبلة تعتمد بشكل أساسي على بناء منظومة بيانات وطنية جديدة، تعتمد المعايير الدولية، وتستفيد من التعاون بين الجهات الحكومية والأممية، وتضمن الشفافية والإتاحة.
فوجود بيانات دقيقة ومنتظمة- بعد سنوات من التأخير- هو ما يمكّن سوريا من تصميم سياسات واقعية، وتوجيه الاستثمارات، وتحديد أولويات التدخل، وقياس أثر المشاريع الاجتماعية والاقتصادية.
ومع الجهود الحالية، يبدو أن البلاد تتجه نحو مرحلة جديدة يكون فيها إنتاج البيانات وتحليلها مدخلاً رئيساً للتنمية المستدامة، لا مجرد عملية إجرائية.