فجوة جوهرية بين “القيمة السوقية” و”الاقتصاد الحقيقي”.. ضرب السعر (وهو بحد ذاته نتيجة لتقلبات المشاعر والسيولة والروايات) بالأسهم أو العملات المشفرة

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – يسرى المصري:

يكمن الخطر في انفصال رأس المال عن الواقع، حين لا تعكس الأسعار السوقية القيم الحقيقية، حيث يتدفق المال نحو المضاربات أكثر مما يتدفق نحو العمل الإنتاجي، ليصبح الاقتصاد هشّا، ويكون عُرضة للانهيار تحت وطأة أوهامه الذاتية.

وهناك أيضا بعد أخلاقي لهذا التأمل، ففي عالم يمكن أن تُربح فيه أو تُفقد المليارات في يوم واحد من خلال تداولات خوارزمية، بينما يكافح الملايين لتأمين الرعاية الصحية أو التعليم أو المسكن، يبرز سؤال آخر عن المعنى الأخلاقي للقيمة السوقية: فهل تعادل قيمة الشركة بالدولار قيمتها للمجتمع؟ وإن لم يكن، فماذا يقول ذلك عن كيفية تعريفنا للقيمة ومكافأتنا لها؟ فالسعر السوقي لا يقيس التعاطف أو العدالة أو الاستدامة، ومع ذلك، فهو الذي يحدد غالبا من يملك النفوذ، ومن يتلقى الأموال والجوائز، ومن يُسمع صوته.

عندما يشتري المستثمرون أسهما، فإنهم لا يشترون أصولا مادية، ولا يحصلون عمليا على ملكية المباني أو الآلات أو حقوق الملكية الفكرية، وإنما يشترون جزءا من التوقع، وادعاء مجردا بشأن أرباح مستقبلية قد تولدها الشركة.

وبهذا المعنى، فإن التريليونات التي ننسبها إلى الشركات ليست خزائن ممتلئة بالنقود، بل هي انعكاسات لأنظمة قبول جماعية. إنها رأسمال تكوّن من الثقة، ثم تحولت الثقة والتفاؤل والتوقعات إلى عملات وأموال.

معنى ذلك أن القيمة السوقية ليست “مالا” بالمعنى التقليدي، مما يمكن استخدامه مباشرة لشراء الخبز أو دفع الإيجار، ولكنها ببساطة حاصل ضرب السعر (وهو بحد ذاته نتيجة لتقلبات المشاعر والسيولة والروايات) بعدد الأسهم المطروحة أو العملات المشفرة المتاحة، إلا أن هذا الناتج يُعامل كما لو كان حقيقة راسخة.

فعندما نقول إن شركة ما تساوي تريليوني دولار، فإن ما نعنيه هو أن هذه القيمة متينة وواقعية، بيد أن هذا الرقم قد يتبخر بمجرد تغير في المزاج العام، أو تعديل في الأنظمة، أو تغريدة من شخصية “نرجسية” مؤثرة.

ويرى كثير من المحللين أن سوق الأسهم والعملات المشفرة مبنية بقدر ما على علم النفس، كما هي على الأداء المالي، ما يجعلها مسرحا للتوقعات الفردية والجماعية.

لكن هذا لا يعني أن السوق زائفة، أو أن هذه التقييمات لا معنى لها، إذ تكمن أهميتها في أثرها الواقعي. فارتفاع تقييم إحدى الشركات يمنحها قدرة أكبر على جمع التمويل، وعلى الاستحواذ على شركات أخرى، وعلى جذب أفضل المواهب.

كما يمنحها أيضا نفوذا في التفاوض، ونوعا من القوة الناعمة في المشهدين؛ الاقتصادي والسياسي، التي تكون عادة مستمدة من “التصور” وليس من “القيمة الجوهرية”. فإذا قرر الجميع غدا أن شركة إنفيديا لم تعد مبتكرة أو موثوقة، فإن تقييمها يمكن أن يتقلص بشكل درامي، رغم أن أصولها المادية لم تتغير.

ومن ناحية أخرى، يكشف ذلك عن فجوة جوهرية بين “القيمة السوقية” و”الاقتصاد الحقيقي”، إذ يتكون الأخير من أشياء ملموسة: غذاء يُزرع، بيوت تُبنى، أشخاص يُوظفون، وطاقة تُنتج. أما سوق الأسهم والعملات المشفرة فهي نظام من الدرجة الثانية- يعكس ويتوقع، وأحيانا يشوه، ما يحدث في العالم الحقيقي.

وخلال طفرات اعتبرت وقتها من المبالغة المالية، كما في صعود أسهم التكنولوجيا 2020-2021، شهدنا شركات لم تحقق أرباحا تذكر تحظى بتقييمات فلكية مبنية فقط على الرواية، حيث استثمر أصحاب الأموال أموالهم في قصة احتمالية، بعيدا عن الإنتاج والعمل، ووصف البعض المشهد بأنه اقتصاد ميتافيزيقي، يوجد فيه “النمو” أولا في المخيلة قبل أن يتجسد في المصانع أو الأجور.
وتخلق هذه الديناميكية فرصا ومخاطر، حيث تكمن الفرصة في قدرة الأسواق المالية على تمويل الابتكار والتقدم على نطاق واسع، بما يسمح بتحقيق إنجازات في الطب والتكنولوجيا والبنية التحتية مما لا يمكن تحقيقه بغير ذلك.
ومن هذه الزاوية يمكننا أن نرى سوق الأسهم كمرآة لأنفسنا لا باعتبارها مرآة للاقتصاد، كونها تعكس ما نقدّره، وما نخشاه، وما نرجوه، تتحول فيها معانٍ مجردة مثل الثقة والمخاطرة والطموح إلى أرقام توجه القرارات العالمية نحو طرق التربح ومراكمة الثروات، وإن كان ذلك بعيدا عن صحة المجتمعات، وسلامة البيئة، وكرامة العمل، يستوي في ذلك سوق ضخمة ذات خبرات كالسوق الأميركية، أو سوق ناشئة، تنمو في ظروف شديدة الصعوبة، كالسوق المصرية.

التحدي إذًا هو أن نقاوم الوهم القائل بأن ما يُتداول في الأسواق هو كل ما يُقاس من قيمة، إذ يتعين علينا أن نتعلم قراءة هذه الأرقام كجزء من سردية أوسع، تضم ما هو غير مرئي، وغير قابل للقياس، وغير مُعترف به بعد، أملا في الوصول- يوما ما- إلى مواءمة اقتصاد الرموز مع واقع الإنسان الحي.

الوسوم:
Leave a Comment
آخر الأخبار