الحرية- رنا بغدان:
دمشقيّة الروح والهوية زيّنت زخارفها وألوانها القاعات والجدران والسقوف، وأطلقت تموجاتها أنغاماً بصرية تبهج الروح قبل العين حتى غدت سمة لحرفة امتهنها أمهر حرفيي دمشق فبرعوا بتكوينها وصدّروها إلى أنحاء الدنيا فناً محملاً بالمعاني الجمالية والروحية وبمدلولاته الفلسفية والرمزية.. إنها حرفة “العجمي” أو “الدهان الدمشقي” التي تعود جذورها إلى الفترة الأموية، حيث كان أول الأعمال في المسجد الأقصى التي تمّت زخرفته في فترة حكم عبد الملك بن مروان وتابعها ابنه الوليد بن عبد الملك من بعده في مسجد بني أمية بدمشق، حيث استقدم المهندسين والصنّاع من العجم والعراق لزخرفته، ومنهم اقتبس الدمشقيون الكثير من أسرار هذه المهنة ثم أضافوا عليها الكثير من التعديلات وأدخلوا فنوناً مبتكرة مثل الخيط الخشبي العربي. وقد تمّ تسجيلها لدى اليونيسكو في لائحة التراث اللامادي تحت اسم حرفة “دهان دمشقي”.
وحرفة “الدهان العجمي الدمشقي” عبارة عن تغليف السقوف والجدران والأثاث في القاعات الشرقية بحشوات خشبية مرسومة ذات أشكال بديعة ومتناظرة، وتوضع المرايا خلف بعض هذه الحشوات المخرمة، حيث يطلى الخشب بمادة “النّباتة” ويزين على شكل وحدات زخرفية ونباتية وهندسية وكتابات تضم حِكماً أو شعراً أو آيات بشكل دقيق ومتناسق ومتناظر ومتشابك ومنسجم ومتوازن بين الرسم والألوان الحارّة والباردة.
وتعتبر “النّباتة” المادة الأساسية في هذه الحرفة، وتتخذ مظهراً أصلب من الخشب عندما تجف، وفوقها يرسم الحرفي أشكاله ويلوّنها ثم يطليها بالورنيش، وتؤمّن جميع المواد من السوق المحلية التي كان لها دور في تطوير وازدهار هذه الحرفة.
ويقوم الحرفي عادة بطباعة الشكل النباتي أو الهندسي الذي يرغب على لوح خشبي مصقول الوجهين بعد رسمه على ورق “الكليك” أو “ورق الزبدة” الذي يسمح بطباعة الأشكال بدقة متناهية أو الرسم عليه بالإبرة، ثم يقوم بوضع “النّباتة” التي هي بمثابة معجونة تتركب من مواد معروفة كالجص والاسبيداج والزنك والغراء ومواد تحسين أخرى ويستخدمها بريشة خاصة ضمن مجال الرسم المنفذ، بحيث تكون نافرة مع استخدام أداة خاصة للحصول على حواف دقيقة تتطابق بين الرسم وبين المعجونة، وتكون السماكات على قدر واحد في التصميم الفني الذي يُترك حتى تجف المعجونة بشكل كامل وتصبح جاهزة لامتصاص الألوان بشكل دقيق، ويكون هذا التوزيع بواسطة ريش خاصة ذات مقاسات مختلفة للحصول على تجانب دقيق للألوان دون حدوث أي تداخلات، فتُوضع الألوان القزحية ثمّ الألوان الفضية والذهبية التي تتركز في الغالب على الأوراق أو مراكز الرسوم أو الأضلع، في حين تترك المسافات الداخلية لتملأ بالألوان الأخرى كالأصفر أو الوردي أو الأخضر.
وحالياً يحافظ هذا الفنّ الدمشقي على ألقه مستفيداً من الاستثمار السياحي من جهة، ومن تميزه كونه عملاً يدوياً كاملاً في جميع المراحل التي يمرّ بها رغم دخول التكنولوجيا وتدخل الكومبيوتر في تنزيل الأبعاد وفي التصميم الهندسي المنتظم..
فنُّ “العجمي الدمشقي”.. أنغامٌ بصريةٌ محمّلة بالثقافة الجمالية

Leave a Comment
Leave a Comment