فن “الغرافيتي” بين نقمة الإيديولوجيا ونعمة الجنون!

مدة القراءة 3 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:

ربما نشأت فكرة الكتابة على الجدران مع تنويعاتها اللونية والرسومات التي باتت تسمّى في عالم الفن المعاصر «الغرافيتي» من رغبةٍ مقموعة في التعبير عن غضب اجتماعي من الأوضاع المعيشية وخراب المؤسسات وبؤس الفقراء الذين ضاعوا بين وهم العدالة الاجتماعية التي وعدتهم بها الأحزاب السياسية وبين واقعٍ يهرسهم ويسحقهم باللامبالاة وتجاهل ما يحتاجونه!

لكن فرادة البشر فيما هم عليه من كينونةٍ عاقلة تجعلهم يبدعون حتى وهم وسط الخراب ووحول العشوائيات وخرداوات الحياة اليومية العبثيّة، كأنهم ينسجون آمالهم من خيوط العنكبوت، ويخترعون أفراحهم اختراعاً ونكايةً بكل مَنْ أوجعهم وأوصلهم إلى ما هم عليه من كوارث… وحتى من تتلبّسُهم عفاريتُهم يتمسكون أيضاً بخيطٍ واهنٍ من أملٍ عنيد لعلّ في لحظةٍ فَرَجٍ مفاجئة يتبدّل الحالُ وينعمون بما يحلمون، وهكذا بعضُهم يغنّي مواويله، وآخرون يخبزون طحين أيامهم بملح دموعهم و«يدقّون الحزن في الجرن».

عشاق مجانين!

البعضُ يرقصُ كآبتَه ويجعلها تطير كالفراشات بعيداً عنه، أمّا “المجانين” الجميلون فيكتبون هواجسهم وأمانيهم ووجدانياتهم على الحيطان:

«لو عيونك دراسة يحرم عليّ سكّر كتابي!»

«بتآمني بالحب من أول نظرة.. ولّا ارجع مرّ من قدّامك؟!»

«خدودك أطيب من طبخ أمّي!»

«أنتِ جميلة كهدف في الدقيقة تسعين!».

فمن كتبوا على تلك الحيطان ربما كانوا بحاجة إلى عناق طويل، إلى «الحُضن؛ أكثر الأماكن الضيقة اتساعاً»، بحاجةٍ لأحدٍ من لحمٍ ودمٍ يستمع إلى وجيف قلوبهم وضجيج أرواحهم المتعبة… لكنهم «عشّاقٌ مجانين» وما من أحدٍ في هذا العالم “العاقل جداً” يرغب بالاستماع إلى مجنون!

المفارقة الجميلة تكمن في أن تصبح تلك الخصوصية الموجَّهة التي يتمناها كاتب/كاتبة الجداريات رسائلَ لعامة الناس، لقرّاء عابرين مجهولين… بل هذه «المجهولية» التي لا يعرف فيها كلا الطرفين أحدُهما الآخر؛ هي ما تعطي لذاك البوح المعلن على شكل رسومات وكتابات بقياسات كبيرة تعطيه متعةَ الانتشار والسباحة في فضاء المكان وعبر مخيّلات الناس العابرين وقلوب الخائبين منهم.

جنونٌ مبدع!

ولو شئنا أن ندخل من بوابة التاريخ لعدنا إلى الفراعنة الذين خلّدوا أنفسهم بالرسومات والنقوش على المِسلّات وجدران المعابد، لنعبر مسير الرحلة إلى زنوج أمريكا وموسيقيي «الراب» الذين استخدموا جدران ولاياتهم للتعبير عمّا لاقوه من عنصرية وفقر وإهانات عبر رسومات ساخرة وخطوط عريضة واضحة تسمى “الغرافيتي”، وصولاً إلى المعاصرة والحداثة الفنيّة التي لوّنت فيها أيادي الفنانين رماد الجدران المهترئة أو المقصوفة، ورمّمت ليس فقط قلوب الناس بل بيوتهم المتهالكة وجدران المدن المتآكلة لتصبح مثلاً علبة كهرباء صدئة لوحةً تمثّل «شارلي شابلن»، وليتحوّل حديدُ سورٍ قديم بلمسة الفن السحريّة إلى دودتين ملوّنتين كما رسومات الأطفال الكرتونية.

هي إذاً لوثة الجنون المبدعة، حبّاً وفنّاً وكلاماً مكتوباً، مَنْ أوصلت ذاك الشاب ليكتب بكل تلقائية: «لئيمة… بس بحبّا»، وهمّتْ بتلك الصبية فرسمت: «ضحكتَك أمل بهالبلد التعبان»!.

لتبقى أجمل العبارات هي تلك التي سيكتبها محبٌّ موجوعٌ أو عاشقةٌ مخذولة على حائط الزمن الآتي… فراقبوا الجدران جيداً لأنكم ربما ستجدون عليها بوحاً رقيقاً لم تستطيعوا أن تقولوه يوماً ما!.

Leave a Comment
آخر الأخبار