الحرية- علي الرّاعي:
” ذَاكرة
كيف أحتفظُ بذاكرةِ خمسةِ أصابعٍ،
صافحتك عند الباب،
وأنا َسمكة؟!”
على هذا الإيقاع من الوثبات تكتبُ الشاعرة رندة حلّوم نصّها الوجيز أو القصيدة النثرية القصيرة، التي لا تعتمد على الطول بقدر ما تُراهن على التكثيف، والدهشة، والومضة العاطفية أو الفكرية. حيثُ تقدم نصوصاً مفعمة بالرمز، والحس الصوفي، والتمرد، بلغةٍ شعرية قادرة على استبطان الذات والكون في آنٍ معاً.
“طقوس
بين الكتلةِ والفَراغِ؛
أشكلك مِنْ تِينٍ أو طِينٍ،
وأقِيمُ عَليكَ الحدَّ
إنْ تَسرقْ من دَاليتي
العنب..”
وفي مجموعتها (العبور الأول) الصادر عن دار (آراء) في بغداد نقرأ في تجربة شعرية لا تقف عند حدود الجمالية اللغوية أو الإيقاع، بل تنفتح على أسئلة الوجود، المرأة، الذاكرة، الحب، الفقد، والوطن.. ثمة كتابة قلقة، متفجرة، حسيّة، تتشابك فيها اللغة مع الفلسفة، والأنوثة مع الحكمة، والبساطة مع العُمق. ولاسيما في اعتمادها المكثف على القصيدة القصيرة جداً، أو قصيدة الومضة، وهو ما يجعل بلاغتها تقوم على ما يشبه الكيمياء الدقيقة للكلمات؛ حيث تتكثف الدلالات وتتشابك الرموز. كما في هذا النص:
“نَزيف
أنا لم أصبغ شَعري بالأحمر،
فقط هو نَزيفُ أفكاري.”
جملة قصيرة، لكنها تحملُ مفارقةً قوية بين الشكل والمضمون، بين اللون والجرح، وتكشفُ عن قدرة الشاعرة على تحويل اليومي إلى مجاز شعري نابض، يحملُ بعداً نفسياً وفكرياً في آنٍ معاً. ففي “طوفان”، تكتب:
“كَسرَ عُنق الزّجاجة،
وغَرِق في الكأس الأخيرة.”
هنا تأتي بلاغة الانزياح لتقلب التوقع، فبدل أن يتحرر، يغرق، وبدل أن تكون الزجاجة رمزاً للمتعة أو الانعتاق، تصبحُ أداة سقوط، ما يعمّق الدلالة دون إسهاب. إذ تعتمد حلّوم على تقنيات الحذف، والمفارقة، والتوازي، والانزياح البلاغي، كما تستفيد من الإيقاع الداخلي دون اللجوء إلى الوزن الخليلي التقليدي، ما يجعل شعرها أقربُ إلى التشكيل اللغوي المفتوح على احتمالاتٍ متعددة من القراءة والتأويل.
وتحضر الأنثى في نصوص رندة حلّوم بشكلٍ مركزي، لكنها ليست أنثى مستلبة أو سطحية، بل كائنٌ واعٍ بذاته، يشتبك مع الكون والذاكرة والجسد بعمق وشجاعة. في “ليست عذراء”، تقول:
“يرشحُ الحبرُ من خصر اللغة؛
عندما يضيق الحرف
عن مساحة الجسد.”
هنا تنقلب الصورة التقليدية للجسد واللغة. فالجسد ليس متلقياً للغة بل مُبدعٌ لها، والحرف ضيقٌ أمام اتساع الجسد/الأنوثة، وهي صورة بلاغية تجمع بين الإيروتيكا والتمرد الفني. إذ لا تقدم رندة حلّوم المرأة بوصفها موضوعاً للجمال فقط، بل فاعلة، خلاقة، تمارسُ غوايتها واختياراتها، وتتجاوزُ التوصيفات النمطية. وتكشفُ الكثير من نصوصها عن أزمة الذات المعاصرة، المتشظية والباحثة عن خلاص، كما في “وحدي”، تقول:
“تلك العاصفة؛
حملتني إلى الداخل بسبابتها،
كم أنا ضئيلة!”
وهذا الشعور يتكرر في نصوصٍ أخرى:”ضياع، اختناق، انكسار..”، كمحاولات للاتحاد بالطبيعة أو الهروب منها. ف”الذات” عند رندة حلّوم قلقة، سائلة، شاعرة بالتيه، لكنها لا تستسلم. وتستثمر الشاعرة موضوعات عديدة، منها: الحب كطقس وخلود، فالحب عندها ليس مجرد علاقة بين اثنين، بل فلسفة، وطقس، وتجربة وجودية. كما في “تعال كقديس”، حيث تتماهى العلاقة بين الحبيب والمحبوبة:
“أنا عابدٌ وأنت معبود،
أنت واجدٌ وأنا
موجود.”
إنها علاقة مطلقة، لا تخضع للشروط الأرضية. وفي “العُبور الأول”، يتحوّل الحب إلى عبور نحو الروح، نحو الله، نحو الارتقاء.. كما تحضر ثنائية الموت والحياة بكثافة، وتتشكّل عبر رموز عديدة: الورقة، العاصفة، الطوفان، الغيمة، الديك، المطار، القطار…
“كلُّ مرةٍ
أقرأ فيها نعْيي،
لا أحبُّ عبارة:
يُحددُ الدفن لاحقاً.”
يأتي النص يأتي هنا كعبارة تحملُ سخريةً سوداء، لكنها أيضاً تُعبّر عن إدراكٍ حاد لعبثية الحياة. في “بعث”، تقول:
“سقط
من شاهقٍ ألف سقوط،
واحترق ألف احتراق،
وتخلص من دمه الفاسد.”
فالموت هنا لا يعني الفناء، بل التحول، وإعادة التشكّل في صورٍ جديدة. وعلى الرغم من أن الكثير من نصوصها ذات طابعٍ تأملي أو ذاتي، إلا أن السياسة والوجع الوطني حاضران، لكن بشكلٍ رمزي غالباً، كما في “عابر سبيل”:
“نحن عبيدك البسطاء،
تخيفنا الأحذية الثقيلة،
والأحذية اللامعة.”
إنها انتقادات غير مباشرة للواقع، وللجوع المزمن، وللمفارقات الكارثية، ولكن بأسلوبٍ شعري ناعم الملمس، قاسٍ في العمق. وفي كلِّ نص تقريباً، نجدُ طيفاً من الرموز: الغيم، الديك، الريح، الفراش، القطار، الظل، الطين، العنب، الزيت، الأفعى، النوافذ… وهي رموز طبيعية، إنسانية، وصوفية، تُستخدم لتشفير المعنى، لا لتغليفه فقط.. وفي “أناكوندا”، الورقة الصفراء تتحول إلى وشم على القلب، والثعبان إلى رمز للذاكرة الجارحة. وفي “كراكيب”، تتحول الذاكرة إلى حِملٍ ثقيل يجب التخلص منه:
“خُذ كراكيب حنينك،
ما عاد يتسعُ المكان.”
يأتي الرمز عند رندة حلّوم ليس كزينة لغوية، بل وسيلة للحفر في النفس والواقع. وتنفتح الكثير من نصوصها على أبعادٍ صوفية واضحة، وتعيد استخدام مفاهيم دينية في سياقات شعرية.. كما في “تيمم”:
“أنا غيمة..
وعمرُ الغيم قصير،
تتقاذفه الجهات،
فيرمي أحمال الذاكرة
عند أول لقاء.”
وفي “قبل صياح الديك”، تتقاطع رموز الزيتون والحنطة والبخور مع طقوس روحية ومعتقدات عميقة، ما يخلقُ حالةً من الخشوع الجمالي والتأمل الوجودي.. تمشي قصائد رندة حلّوم على خيوط الفقد والفرح والذكريات والجنون، مثل نحلٍ يبحث عن رحيق المعنى في فوضى الأزهار. وفي عالمها، لا شيء ثابت، كلُّ شيءٍ متحول، واللغة نفسها تتحول من وسيلة تعبير إلى طقس عبور نحو ذات أكثر حرية.
“سُؤال ٌعَظيمٌ
لمّا أزاح َلُهاثهُ حُمرةَ التّراب،
عرفَ أنّ الأسئلةَ العظيمةَ
لا تأتي للبشرِ، واقفين.”
تنطوي تجربة رندة حلوم في الكتابة الوجيزة على بلاغة خاصة، حيث تتداخل فيها مستويات التعبير الوجداني، والتكثيف الدلالي، مع روح أنثوية تارةً شفيفة وتارةً متمردة. فهي تكتب من الداخل، من مكانٍ مأهولٍ بالحساسية تجاه العالم، وبذاكرةٍ شخصية وجمعية تُصاغ بلغةٍ مراوغة، مشحونة، لا تستعير ملامحها من أحد. بل تُنتج صوراً ومجازات جديدة تغوي القارئ، وتعيدُ للقصيدة طقوسها الغامضة. كما نلمح في نصوصها، رؤية شاعرية للعالم، حيث الحواس هي الأدوات الأصدق، والمجاز هو الطريقة المثلى لفهم الخراب. كما تتجلى في شعرها نزعة وجودية صوفية أحياناً، وسياسية غير مباشرة في أحيانٍ أخرى، دون أن تسقط في فجاجة الخطاب أو ضجيج الشعارات. تكتب رندة حلوم “القصيدة العابرة”، القصيرة، الومضة، لكنها تترك أثراً عميقاً عند القارئ. وهي لا تستهلك نصوصها، رغم وجازتها، بسرعة، بل تُقرأ وتُعاد قراءتها، لأنها تتجاوز حدود اللغة لتلامس المدى الإنساني الأعمق.