فيلم “الابن السيئ” لغطفان غنوم.. الإمعان في ذاكرة الألم السوري 

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- بديع صنيج:

رغم أن فيلم “الابن السيئ” لمخرجه غطفان غنوم صُنِعَ أساساً لتذكير الغرب بالثورة السورية وممارسات الطغيان نظام البعث على شعبنا، إلا أنه في عرضه السوري الأول ضمن دار الأوبرا استطاع أن ينكأ ذاكرة الألم فينا، وأن يُعيد بسردياته مفاصل مهمة من سيرورة الثورة عبر دغمها بسيرته الذاتية وبسيرة (صالح أحمد والد زوجته) الذي ثار أيضاً على نظام حكم الشاه الإيراني ونجا هو الآخر من البطش والاستبداد بعد حكم الخميني، بعدما هرب من الاضطهاد الذي مورس على الأقليات العربية في أهواز إيران، وذلك عبر رحلة طويلة انتهت مثل نهاية المخرج غنوم باللجوء في فنلندة.

مجموعة فديوهات
الفيلم الذي عرض برعاية وزارتي الإعلام والثقافة وبالتعاون مع الدفاع المدني السوري، وكتبت السيناريو له “وفاء العاملي” كان عبارة عن مجموعة هائلة من الفيديوهات الوثائقية تم تجميعها بعناية لترسم ملامح حقبة مديدة من الأسى والظلم والاستئثار بالسلطة وخيانة الشعب، وذلك ابتداءً من انقلاب حزب البعث عام 1963، مروراً بتولي حافظ الأسد السلطة وتصفيته لزملائه في الحزب من أجل البقاء وحيداً في الحكم بعد ما سُمِّي الحركة التصحيحية عام 1970.

مجزرة حماة
كما عرَّج الفيلم على مجزرة حماه عام 1982 وادعاءات التآمر الخارجي والعمالة لأميركا وغيرها من التُّهم التي برَّر من خلالها تدمير جزء كبير من المدينة وقصف شعبه بالآليات الثقيلة، فضلاً عن حملات التصفية لكل من يخالف نظام حكمه سجناً وقتلاً وترهيباً، إضافة إلى السَّماح لنفسه ولنظامه بالتدخل في شؤون لبنان الشقيق وتغذية الحرب الطائفية فيه لإحكام سيطرته وتبرير تدخله، ومن ذلك إدخال الجنود السوريين بهويات فلسطينية كما حصل مع والد المخرج الذي كان جندياً في ذاك الوقت.
قصة الفيلم لم تقف عند ذلك، بل تابعت الذهنية الدكتاتورية للأسد الأب الذي جيَّر التوترات الدولية لصالح تثبيت أركان حكمه، جاعلاً من عدد كبير من الحكام الديكتاتوريين حلفاء له سواء في رومانيا وكوريا الشمالية وغيرها، متَّبعاً بعض أساليبهم في ترسيخ هيمنته على الشعب بكافة طبقاته وتوجهاته السياسية والثقافية، جاعلاً من حزب البعث بمثابة طغمة تسيطر على مقدرات البلاد وكفاءاتها، بحيث أن الولاء لذاك الحزب الحاكم هو الضامن الوحيد للعيش، وما دون ذلك فهو ورقة باتجاه التهلكة سواءً الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو حتى الحياتية.

آليات الإقصاء
كما يشرح فيلم “الابن السيئ” آلية الإقصاء التي اتبعها حافظ الأسد لكل من يخالف تطلعاته، فضلاً عن الترهيب الممنهج لهم، وفوق ذلك كيفية ترسيخه فكرة توريث الحكم، إذ بعدما أعدّ ابنه باسل ليخلفه إلا أنه مات بحادث سيارة، لكنه جعل منه شهيداً زوراً وبهتاناً ودفع الشعب كله للحزن عليك مُرغماً، ولذلك لم يعد أمامه سوى ابنه بشار الذي تسلَّم السلطة بعد وفاة أبيه باللوكيميا بطريقة هزلية تليق بشخصيته الانطوائية وعدم امتلاكه كاريزما القيادة، ورغم وعوده في بداية حكمه بالانفتاح وتحقيق الرخاء الاقتصادي وفتح صفحة جديدة لسوريا في علاقاتها مع الخارج، إلا أنه سرعان ما انكفأ على فساد حكمه، وعاد ليمارس ممارسات والده القمعية بمساعدة الطغمة التي تحيط به، وهو ما كان السبب الأبرز في إشعال الثورة السورية عام 2011.

فشل التحالفات
هنا تتغير نبرة الشريط السينمائي وتصبح أكثر عنفاً ودموية، من خلال تسليط الضوء على النهج العنفي الذي اتبعه الأسد الابن في مواجهة ثوار سوريا، وذلك منذ 2006 حين ثارت القامشلي على حكمه، ثم بعد 2011 عندما صار شعار “الموت ولا المذلة” هو عنوان المرحلة بالنسبة لكثير من السكان السوريين الثائرين على الظلم والفساد والمحسوبيات والترهيب وكم الأفواه، ليركز الفيلم على نشأتها في درعا حين قام بعض الأطفال بكتابة بعض الشعارات على حائط مدرستهم وكيف تم القصاص منهم بوحشية لا تليق بطفولتهم، ثم تم الانتقال إلى حي باب   عمرو الحمصي حيث نشأ المخرج غنوم وعايش تفاصيل العنف وجذوة الثورة التي ما فتئت تتقد وتعمّ ويزيد انتشارها، ومعها يتصاعد عنف النظام لإطفائها، لكنه لم ينجح رغم اللجوء إلى تحالفات مع روسيا وإيران إلا أنها لم تكن كافية رغم استخدامها للبراميل والطيران والتكتيكات العسكرية، فالحق هو الذي سينتصر في النهاية، والثورة ستستمر حتى نهاية الطاغية الذي استخدم ورقة داعش لتبرير وحشيته واتهام الثوار براديكاليتهم الدينية في سبيل تصويرهم بأنهم هم الوحوش، لكن آلته الإعلامية الساذجة لم تستطع الوقوف في وجه إعلام الثورة وتنسيقياته التي امتدت على مساحة سوريا.

سخرية مرّة
مشاهد غاية في الألم وثَّقها غطفان غنوم مستفيداً من أرشيفات مختلفة، وللتخفيف من حدَّتها لجأ إلى السخرية المرة من آل الأسد وإعلامهم ومجلس شعبهم وحزب بعثهم، كما أنه بتشبيك الشخصي مع سيرة الثورة السورية جعل القصة أكثر حيوية، مستفيداً من تقطيع الفيلم تحت عناوين بعضها مأخوذ من روايات وأفلام ومسرحيات عالمية من مثل: قصة موت معلن، صراع العروش، من أجل حفنة من الدولارات، سبارتاكوس، الجريمة والعقاب، ذهب مع الريح، وغيرها من عناوين غذَّت سرديته وقاطعتها مع مرجعيات في الذاكرة العالمية، ومع ذلك لم نشهد في الفيلم مشاهد بكاميرا غطفان وكأنه بذلك لا يريد أن يكون هو البطل، بقدر ما يحيل تلك البطولة إلى الثوار السوريين وسردياتهم، رغم أن قصته الشخصية بما في ذلك إقصاؤه من المعهد العالي للفنون المسرحية بذريعة تعريه في الأستوديو، ثم حصوله على منحة لدراسة السينما في جمهورية مولدافيا الشعبية، وعدم قدرته على تعديل شهادته بعد التخرج، وتالياً أن يكون أحد مخرجي مؤسسة السينما،
ومشاركته في الثورة ثم تهدم بيت عائلته في باب عمرو ثم بيتهم في القصير واضطراره للجوء إلى فنلندا هي بحد ذاتها كانت خطاً درامياً مهماً وغنياً في الفيلم الذي نال جائزة في (مهرجان ماي السينمائي الدولي) بالهند، وجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان “ريو دي جانيرو” الدولي للأفلام في البرازيل، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان “بيرساموندا الدولي للأفلام”، وجائزة أفضل فيلم وثائقي أيضاً في “مهرجان الفيلم السويدي الدولي”، إلى جانب جائزة أفضل فيلم صادم وثائقي في مهرجان “قلب أوروبا السينمائي” بمدينة كوشيسته السلوفاكية والعديد من الترشيحات والجوائز الأخرى.

أيام صعبة
وبعد العرض قال المخرج غطفان غنوم كلمة لجمهور صالة الدراما جاء فيها: “كانت أياماً صعبة علينا جميعاً في سوريا، ولاتزال هناك معاناة مستمرة يتوجب الالتفات إليها بشكل سريع، أقصد معاناة أهلنا في المخيمات، نحن في بيوتنا نعاني من البرد فكيف هم عندما يتضافر البرد والجوع، يتوجب أن تتوجه الجهود الآن لإنقاذ كل سوري لا يزال يعاني”.
وأضاف: “أشعر بالفخر والامتنان لكل من ضحى، لنكون اليوم في سوريا الحرة، ونعرض الفيلم في مكان ثقافي ملك للشعب السوري بعد أن تم إقصاء الكثيرين عنه في زمن الأسد، الآن نحن بحاجة للعدالة وتكافؤ الفرص وأن يكون الفنانون صوت الناس بحق”.

Leave a Comment
آخر الأخبار