الحرية- مجد عبيسي:
يا من تنظر إلى الصفحة الأولى، فتشعر بالخفة، وتترقب سحراً يُوحِدهُ المُبدعُ في أوجِ فاتحةِ عمله، إنها ليست مجرد كلمات تسبقُ المحتوى، بل هي مرآةُ عُمقِ فكره، ونافذته على عوالمه، وقنطرةُ عبوره إلى بعدٍ جديد يُخلقُ من خيوطِ الكلمات والنظريات.
إنَّ المقدمات، تلك الكينونات التي يُبدعها أصحاب الأقلام، لا تقتصر على مجرد تمهيد، بل تتجاوز ذلك إلى أن تكون بذاتها علماً يُدرّس، ومرجعية تُحتفى بها، وتحمل في طيّاتها أبعاداً موسوعية وإبداعية، قد تَقودُ القارئ إلى آفاق غير متوقعة.
أما عن أدوارها، فهي تتنوعُ بحسب حضارتها، وتاريخها، وذائقة صاحبها. فتباينتْ على مر العصور، واستعرض القرّاءُ والكتابُ نماذج من أذهلهم الجمال فيها، وجعلها تلعبُ أدوارَ الروافد الكبرى.
فمثلا المبدع (ابن خلدون)، حينما وضع مقدمة كتابه “العِبر”، جعلها تتجاوز حدود التَّقديم، فقسمها لتكون ككتاب مستقل، موسوعة من الفكر، التاريخ، والاجتماع، نَفَسُها مرجع موسوعي، خالدة إلى اليوم تحت اسم (مقدمة ابن خلدون).
وفي عصور الرواية، نرى أن مقدماتُ الأدب الكلاسيكي كانت بمثابة حيازةِ أسرارِ العالم، ودرعِ مُقدمةِ القصة، فهي تلميحٌ لرحلةٍ عميقة، ونافذةٌ للاطمئنان على مغامرةٍ مقبلة.
من ذلك، مقدمة رواية (دوستويفسكي) في “الإخوة كارامازوف” التي سردَها بنفسه تحت عنوان (إلى القارئ)، كأنها أصدقاء وُدّيون، يتحدثون عن شخوصه وأمراضهم النفسية، كأنه يُحَضِّرُ القارئ لقبول العاصفة الداخلية التي تصرُفُ في أبطال الرواية، يحذرُه في عباراتٍ ذكية، بأنها لذةُ المفاجأة لن تُحرَق، وأنه يستطيع أن يترك الرواية من الصفحات الأولى إن لم يعجبه، ومع كل ذلك، فإن النقاد يرشحونها كواحدة من أبدع مآثر الأدب.
وما أزال أذكرُ أن المبدع (ماركيز)، وهو من عرش الأدب، ذكر في مقدمة صاغتها أنامله أنه تمنَّى لو أنه من ألف رواية الياباني (ياسانوري كاواباتا) “الجميلات النائمة”، فهي بقصر صفحاتها، كانت كأملٍ يغرِبُ في القلب، فكتب مقدمة لها انتشرت من خلالها.
أما في ساحات الخيال، فإن البريطاني (توكلين)، مؤلف “سيد الخواتم”، ينثرُ فاتحته كعنقاء تسرقُ الأضواء، يجترحُ عوالم من الأساطير، حيث تتراقصُ الأجناس البشرية القزمة الضاربة في العصور الغابرة المجهولة ولكن المتصلة بعصورَ الشَّمسِ الثالثة (عصر الحكاية)، ينفُذُ بنا من خلال كلماتٍ خيالية، لتسقطُ على السرد كقطرات من ندى الضياع البعيد، متجذرة في تخيلٍ حالمٍ يُدَولُ في أوجِ الأسطورة ليسحب القارئ بخدر إلى أعماق الرواية.
فكلما كانت فاتحة النص أبهى، وأعظم، وأعمق، كانت آمال الكاتب أسمى، وأهدافه أَحَبَّ، كي تظلّ محفورة في ذاكرة المتلقي، وتقوده إلى عالم لاينتهي من الجمال والمعرفة.