الحرية – مها سلطان:
غير مفهوم بالضبط ذلك التحذير الذي أطلقته السفارة الأميركية إلى رعاياها في سوريا بسبب ما سمته «تزايد خطر الهجمات الإرهابية في دمشق» خلال عطلة عيد الفطر، ودعوتهم لمغادرتها، أو عدم التوجه إليها.. وهو بلا شك مستفز لعموم السوريين الذين يرون أن قيادتهم تتخذ خطوات واسعة مهمة ومتسارعة في سبيل تحقيق الأمن والاستقرار، والانطلاق بعملية البناء، وتنظيم الحياة السياسية واستعادة الاقتصاد.
بدا لافتاً تزامن التحذير الأميركي مع بروز حكومة سورية جديدة تضع مسارات العملية السياسية والاقتصادية والأمنية على سكتها الصحيحة، هذه الحكومة الجديدة تأتي في الترتيب الخامس للتحولات السياسية البارزة خلال الأشهر الأربعة الماضية، بعد التحرير في 8 كانون الأول الماضي، ثم مؤتمر الحوار الوطني، ثم الاتفاق مع «قسد»، ثم الإعلان الدستوري..
– فعل ورد فعل
وفيما كان من المفترض أن تلقى هذه التحولات ترحيباً أميركياً- من نوع ما- باعتبارها جزءاً مما يسمى مطالب أميركية، وما تقوله واشنطن حول «مراقبة مسار السلطة الجديدة» لتحديد الشكل النهائي للتعامل معها، خصوصاً ما يتعلق برفع العقوبات.. نجدها تصدر هذا التحذير غير المفهوم. وبعبارة أدق غير المفيد، وذلك بعد أربعة أيام فقط من تسريب مُتعمد لـ«قائمة شروط أميركية» سلمتها- على ذمة وكالة رويترز- ناتاشا فرانشيسكي، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون سوريا، إلى وزير الخارجية أسعد الشيباني، خلال اجتماع على هامش مؤتمر بروكسل للمانحين في 18 آذار الجاري.
ما بين المُعلن والمستتر في مسار الانفتاح على سوريا.. المشهد خاضع لتطورات الإقليم المتوقع منها والمفاجئ
المراقبون الذين انشغلوا لأيام بعدها في تحليل القائمة وتوقيتها وهدفها، لم يخرجوا بشيء ذي قيمة، فيما القيادة السورية لم تعلق، لا على هذه القائمة، ولا على التحذير الأميركي الصادر اليوم السبت، بل هي مضت قدماً في خطواتها السياسية، على مستوى الداخل وإعلان حكومة جديدة، وعلى مستوى الخارج باجتماع مهم في جدة/السعودية، لتسوية أزمة الحدود مع لبنان والاتفاق على ترسيمها.. وبقمة خماسية مهمة في العاصمة الفرنسية باريس، توسعت عن قمة ثلاثية، شارك الرئيس الشرع في كليهما عبر الفيديو.
وكانت القمة الخماسية (سوريا، لبنان، فرنسا، قبرص، اليونان) خطوة سياسية أمنية كبرى باعتبارها مثلت توجهاً إقليمياً/متوسطياً بارزاً ومختلفاً في التعاطي مع القضايا المشتركة، خصوصاً الأمنية، والتعاون في مسارات الطاقة ومشروعاتها.. فيما جاءت القمة الثلاثية قبلها (سوريا، لبنان، فرنسا) استكمالاً لاجتماع جدة فيما يخص اتفاق ترسيم الحدود، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية بحث موسع للمخاطر التي يتعرض لها البلدان، سوريا ولبنان، خصوصاً الإسرائيلية المستمرة والمتصاعدة، إلى جانب تطورات المنطقة.
– قراءة مختلفة
ما سبق يُفترض أنه تطورات إيجابية واسعة ستنعكس حتماً على مسارات الأمن والاستقرار في سوريا، ويُفترض به أن يلقى ترحيباً ودعماً، ومن هنا فإن هذه المواقف الأميركية تبدو غير مفهومة وغير مفيدة. مع ذلك هل يمكن قراءتها بصورة مختلفة ربطاً ومقارنة بالموقف الأوروبي، وهل أن وراء الكواليس ما يُناقض مسرح المواقف الأميركية المُعلنة، أو لنقل التي لا يُراد الإعلان عنها حالياً؟
نظرياً.. كل الافتراضات القائمة فيها شيء من الصحّة والتناقض في آن، وهي بالعموم يتم ربطها إقليمياً على قاعدة أن أميركا تنظر إلى المنطقة سلة واحدة، وتالياً فإن الموقف من هذه الدولة أو تلك، سلباً/إيجاباً/حياداً/ تجاهلاً، لا ينفصل عن هذه القاعدة.
تزامُن التحذير الأميركي مع بروز حكومة جديدة بدا مستفزاً في ظل ما تتخذه القيادة السورية من خطوات واسعة لإرساء الأمن والاستقرار
عملياً.. تبدو سوريا حالة مختلفة، أو خارجة عن القواعد والشروط. وهنا ينقسم المراقبون بين ما يرونه تناقضاً في الموقفين الأميركي والأوروبي، الأول متحفظ متشكك كما يقولون، والثاني منفتح متعاون ولا ينتظر رد الفعل الأميركي.. فيما يرى الفريق الثاني من المراقبين أن الموقفين لا ينفصلان، ينسقان معاً معظم خطوات التعامل مع سوريا الجديدة.
واشنطن لم تعلق على اجتماع جدة، ولا على القمتين في باريس، رغم أنهما في صلب اهتماماتها المتعلقة بالمنطقة، إلا إذا كان بالإمكان وضع «التحذير الأميركي» آنف الذكر، وقبله «قائمة الشروط الأميركية» في سياق موقف أميركي سلبي غير مباشر، وفي سياق رسالة إلى الأطراف المعنية لتقليص حجم الانفتاح، وهنا يتوقف المراقبون عند هذا الموقف
الأميركي في ظل كثير من التسريبات التي تتحدث عن تعاون استخباراتي أميركي مع القيادة السورية لضبط المخاطر والتهديدات، وفي ظل ما يُقال عن دور أميركي رئيسي في تيسير الاتفاق بين القيادة السورية وقوات سوريا الديمقراطية «قسد».
– لا تعليق
القيادة السورية لا تعلق بالمجمل على الكثير من المواقف والتصريحات، وهي في توجهها الأوروبي تسعى للاستفادة قدر الإمكان وإن كانت غير راضية بشكل كامل عن سير عملية الانفتاح، فحتى الآن هناك بطء ظاهر في مسارها، وقد يكون ذلك مرتبطاً بالموقف الأميركي، رغم أن الانفتاح يصب بصورة كبيرة في خدمة الأوروبيين وفي كثير من القضايا، على رأسها قضية الهجرة واللاجئين، والأهم أن لا يخسر الأوروبيون حضورهم في المنطقة، وبما يوسع أزماتهم الداخلية والبينية، ويدفعهم نحو انحسار نهائي عن الساحة الدولية.
في مسار الانفتاح على سوريا لا يبدو المشهد واضحاً بصورة تدفع لاستخلاص نتائج محددة.. لا يزال كل شيء خاضعاً للتطورات بوجهيها المتوقع والمفاجئ
طبعاً في مسألة التعاون والانفتاح الدولي على سوريا، لا يمكن بأي حال تجاهل الولايات المتحدة الأميركية، ففي سوريا هي طرف، وليست مجرد «دور خارجي» مثلها مثل ألمانيا أو فرنسا أو غيرهما. أميركا تتواجد على الأرض ولها قواعد وقوات و«قسد». وفي مسألة العقوبات فإن عقوباتها هي الأقسى والأشد تدميراً للاقتصاد السوري.
– المشهد القائم
والسؤال: هل أن المشهد سلبي إلى درجة يُبقي مسار الانفتاح الدولي (الأوروبي) مُقيداً، أم أن المشهد أكثر مرونة مما يظهر؟.. هل يبقى المشهد سلبياً، أم أن المرحلة المقبلة ستفرض حتماً تغييراً قسرياً في عملية التعاطي مع سوريا، وفق ما تشهده المنطقة من تطورات متسارعة؟
سوريا ماضية قدماً وفق المسارات المتاحة وتجتهد لتوسيعها.. المهمة ليست سهلة لكن العمل قائم ومتواصل ولكل عمل أوانه ومكانه
دائماً، كل الاحتمالات قائمة.. ولا بد من الانتظار.
مع ذلك.. المهم هنا، أن سوريا ماضية قدماً وفق المسارات المتاحة، وتجتهد في سبيل توسيعها. المهمة ليست سهلة، لكن العمل قائم ومتواصل، ولكل عمل أوانه ومكانه.