الحرية – مها سلطان:
أن يخصَّ السيد الرئيس أحمد الشرع إدلب بأولى زياراته الداخلية، فهذا أمر لم يكن غير متوقع، ليس فقط لأن إدلب شكلت حالة خاصة جداً على خريطة الثورة ونقطة ارتكاز رئيسية في تحرير البلاد، بل لأن إدلب كانت التمهيد والنواة، لمسار النجاح ما بعد التحرير، وهذا هو الأهم، وهو ما أكد عليه الرئيس الشرع مراراً في زياراته ومقابلاته الإعلامية، مشدداً على أن التحرير كان البداية فقط ثم الانطلاق بمسار بناء الدولة.
ولم يكن غير متوقع أن يزور حلب بعدها مباشرة. فإذا كانت إدلب نواة الثورة الصلبة فإن حلب بأريافها الشمالية كانت ضمن هذه النواة، علماً أن المدينة لم تكن ببعيدة، بل كانت على الخط نفسه، والجميع على معرفة بالاعتبارات السياسية الهائلة التي كانت تحكم المدينة، بما فيها سياسات دولية لا تخفى على أحد.. ولحلب دائماً- وعبر التاريخ- الريادة الاقتصادية، هذا من جهة.. والتكاملية بينها وبين إدلب من جهة ثانية.
– النواة الصلبة
ولأن النواة كانت من الصلابة لدرجة تجاوزت معها جميع الضغوط خصوصاً العسكرية/ الميدانية (علماً أن السياسية لم تكن أقل ضغطاً ولكن التعامل معها كان أقل تكلفة، والمجال أكبر للمناورة والكسب).. لأن هذه النواة كانت صلبة إلى الدرجة التي استطاعت فيها «حكومة الانقاذ» بناء «دولة مصغرة» متكاملة سياساً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً، وحتى علاقات إقليمية.. فإن زيارة الرئيس الشرع لإدلب ثم حلب كانت متوقعة لعدة أسباب (وبالأصح عدة رسائل داخلية وإقليمية) وعلى مستويين سياسي واقتصادي:
1- هي زيارة عرفان ومحبة لأهل إدلب الذين احتضنوا الثورة، ودعموها في كل الظروف وفي أشد المحن، ودائماً كانوا على العهد وعلى مواصلة الطريق حتى النصر..
إدلب وحلب بداية وزيارات أخرى متوقعة.. الرئيس الشرع يصوب رادار سوريا الاقتصادي.. والعين على كل المحافظات للنهوض واستعادة الأمان المجتمعي
وبالنسبة لحلب فهي زيارة تأكيد على أن هذه المحافظة ستكون على الرادار الاقتصادي الرئيسي، وأن القيادة الجديدة لن تهمل أبداً قطاع رجال الأعمال والتصنيع، وهم الأشد تضرراً، وهي تضع نصب عينيها القاعدة الثابتة والمتمثلة في أن حلب شكلت تاريخياً الرافعة الاقتصادية، حيث ينفرد رجال الأعمال فيها بعزيمة لا تضاهى، وبإبداع اقتصادي مشهود له داخلياً ودولياً، وهذا ما أثبته أهلها، ليس فقط على مستوى المحافظات التي انتقلوا إليها خلال سنوات الحرب، وأعادوا تنشيط سوق العمل فيها، بل على مستوى بلدان اللجوء وقدرتهم على بناء مجتمع أعمال ومال متكامل فيها.
– تعميم التجربة
2- هي زيارة لها ما بعدها، حيث إن الكثيرين توقعوا أن ينتقل الرئيس الشرع من إدلب إلى حلب، وهذا ما كان. وهو سيزور محافظات أخرى على الأرجح .
زيارة الرئيس الشرع إدلب وحلب له بعدها الجغرافي (الحدودي) المتعلق بالجزء الشمالي من سوريا، ودورها الاقتصادي سواء داخلياً أو على مستوى الجوار التركي، والتطلع إلى تعميم تجربة إدلب وحالة التكامل الاقتصادي بينها وبين تركيا، فهي تجربة ناجحة بمقاييس كثيرة وكبيرة، ولا أحد ينكر ما شكله هذا التكامل الاقتصادي من داعم ورافد رئيسي للثورة وقدرتها على الاستمرار وصولاً إلى تحرير كامل البلاد (في 8 كانون الأول الماضي).
– تأكيد الأولويات
3- هي زيارة تأكيد على الأولويات الداخلية للقيادة الجديدة، والرئيس الشرع، ونحن هنا نتحدث عن الاقتصاد بشكل أساسي ورئيسي باعتباره رافعة نجاح لكل مقومات بناء الدولة، وأنه لا بد من استعادة الاقتصاد الداخلي، وتدعيم بنيانه، بما يعزز الجبهة الداخلية، بمعنى تمكين السوريين في عيش كريم، بتحسين قوتهم المالية، وتالياً تخفيف الضغوط الاقتصادية بما يمنحهم هامش ابداع اقتصادي يصب في خدمة البلاد وتطورها، وقدرتها على المنافسة خارجياً، خصوصاً وأننا نعيش مرحلة تحول العالم من السياسة إلى الاقتصاد لدرجة تتراجع فيه الدول إلى المرتبة الثانية مقابل التكتلات الاقتصادية العملاقة، وعندما ترغب بالانضمام إلى تكتل أو تكون ضمن تكتل فلا بد أن تكون قادراً على المواجهة والمنافسة.. والكسب.
– ملف المناطق المتضررة
4- هي زيارة مرتبطة بملف المناطق المتضررة، خصوصاً الأرياف، والهدف أيضاً اقتصادي، إذ إن هذه المناطق نالت النصيب الأكبر من التدمير وكان أهلها الأكثر استهدافاً على يد النظام البائد، وتالياً فإن لها أهمية كبيرة، بل أولوية، إذ يضاف إلى التدمير والاستهداف أنها بالأساس تشكل رافعة اقتصادية رئيسية إذا ما أخذنا بالاعتبار أن سوريا بلد زراعي بالدرجة الأولى، من دون أن يعني ذلك تجاهل الصناعة والتجارة، بل إن الصناعة مرتبطة كلياً بمناطق الزراعة وتصنيع المنتجات الزراعية، وإذا ما كانت هذه الأرياف حدودية فإن التجارة أيضاً ترتبط بالزراعة والصناعة، في حالة تكاملية تفرض نفسها كأولوية
في استراتيجيات التخطيط الاقتصادي.
ويمكننا هنا ان نأخذ تجربة إدلب (مدينتي الدانا وسرمدا) اللتين كانتا البوابة الاقتصادية ما بين محافظة إدلب وتركيا، وبما جعلهما مثلاً يحتذى في عملية التكامل الداخلي مع الأقليمي، أي مع تركيا. تكفي زيارة سريعة لهاتين المدينتين (أو حتى زيارتهما على مواقع التواصل الاجتماعي) لتأكيد النجاح الكبير لهذه التجربة.
– استراتيجية اقتصادية داخلية
5 – إذا ما اعتبرنا أن زيارة إدلب وحلب هي بداية في مسار تحرك استراتيجي على المستوى الداخلي، فهذا يعني أن الرئيس الشرع (والقيادة الجديدة عموماً) يمتلك رؤية تكاملية على كامل الجغرافيا السورية، وقياساً بالمدة القصيرة منذ التحرير (في 8 كانون الأول الماضي) فإن هذه القيادة عازمة على تحقيق هذه الرؤية، وعلى أن تكون حاضرة على الأرض، رغم أنها عملياً مطلعة بصورة موسعة ومكثفة وعملية على الاحتياجات الحقيقية، وما هو عليه واقع البنى التحتية/الخدمية، وما وصلت إليه من تدهور على يد أزلام النظام السابق.
– تكامل اقتصادي مع تركيا
6- هذه الزيارة تندرج أيضاً في إطار إقليمي (تركي بداية وتحديداً) إذا ما تحدثنا عن الشمال (وفي مناطق حدودية أخرى لاحقاً) وهنا لا بد من العودة إلى مسألة الربط والتكامل الاقتصادي مع تركيا، خصوصاً وأن هذه الزيارة تأتي بعد زيارة الرئيس الشرع لتركيا، والتي ركزت على الوصول بالعلاقات السورية التركية إلى مستويات استراتيجية في كل شيء، والاقتصاد في المقدمة. وطبعاً لإدلب وحلب قصب السبق في هذا الإطار. (هناك احصائيات اقتصادية تقول إن اقتصاد إدلب يعادل اقتصاد جميع المحافظات السورية مجتمعة، وأنها مكتفية، حيث الزراعة والصناعة والتجارة والعمران..الخ). ولا يخفى هنا الاهتمام التركي بمحافظة حلب لما تشكله من أهمية اقتصادية/تجارية على خريطة التعاون الاقتصادي السوري التركي.. وعندما نتحدث عن إدلب لا يمكن إلا الحديث عن حلب، والعكس بالعكس، كلتاهما تشكلان وحدة جغرافية اقتصادية في الرؤية التركية، وكلتاهما نواتان أساسيتان في بناء الاقتصادي السوري.
– على جاهزية تامة
لا شك أن زيارة الرئيس الشرع لإدلب ثم حلب، عززت شعوراً أكبر بالاطمئنان لدى السوريين، لناحية أن مسار بناء الاقتصاد بدأ فعلياً، ولناحية صوابية البدايات والرؤى الاقتصادية، ولناحية الأولويات، فنحن أمام قيادة يبدو أنها كانت تتحضر لكل شيء، وكانت واثقة من النصر، لذلك خططت لكل شيء، ورسمت الرؤى والاستراتيجيات، وعندما تحقق النصر كانت على جاهزية تامة.