الحرية – جواد ديوب:
تشكيلات لونية مبهجة، ونقشاتٌ فيها روح الشرق ومنمنماته وتعويذاته… تجذب زوار معرض دمشق ليشاهدوا بشكل مباشر كيف يقوم أحد الحرفيين السوريين بحياكة نسخ مصغرة من السجاد مثلما ينسج الحكايات عنها، وكيف يقوم بإصلاح ما تمزق منها بأسلوب نادر يسمّي: (الرَّتي).
مثل ترميم الأيقونات!
الحرفي عمر رواس يمتهن حرفة حياكة السجاد اليدوي منذ خمسين سنة في مدينة حلب، ورث وتعلم المصلحة من أجداده ووالده، يقول لصحيفتنا الحرية:
السجادات تكون عادة أرضيتها من القطن (الخطوط العامودية) والعقد التي نشبكها ونلّفها على خطوط الأرضية تكون من الصوف، في بعض البلدان تكون كلها صوف أو حرير وصوف، الآن نشتغل على نول مصغّر فقط للزوار، وهذا نول يختلف عن نول البروكار وصناعة البسط.
ويضيف: العمل النادر والأصعب عندنا هو “رتي” السجاد اليدوي المثقوب أو الذي تعرض لبعض التلف بسبب “حشرة العث” التي تنتشر بسبب الإهمال وعدم تهوية وتشميس السجادات في البيوت أو المكاتب أو القصور… وهذا تفصيل صعب جداً مثل ترميم الأيقونات أو اللوحات الأثرية يحتاج لمهارة شديدة وخبرة طويلة، وتكاليف إصلاحها مرتفة جداً، لكن ولخبرة الحرفيين الحلبيين يرسلوا لنا من فرنسا وألمانيا وبلجيكا بعض السجاد المهترئ الذي يستخدم في تغطية الكنبايات وأثاثات القصور الملكية لديهم يسمّى (أبيسون) … وهي قطع سجاد تحتاج منا شهوراً لإنجازها، إذ لم يبقَ في سوريا كلها إلّا خمس أو ست حرفيين يعملون في هذه الحرفة التقليدية، منهم بيت البوشي في حلب، والموصللي في دمشق.
أين السياح؟!
عمر الرواس يشير إلى أن منتجات سوريا من السجاد اليدوي تحتاج إلى السائح الأجنبي بالضرورة، لأن السياح هم أكثر من يهتمون بشراء قطع تذكارية تكون أكثر ما يرمز إلى سوريا أو البلد الذي يزوره. أما عن الزبون السوري فهو مهم لنا بالتأكيد، لكن غلاء السجاد اليدوي يجعل من السوق المحلي سوقاً شبه راكد (يتراوح سعر القطعة من ألف دولار إلى خمسة آلاف دولار وأكثر) وبعضهم لا يدرك قيمة السجادة التي ورثها أو موجودة في بيت العائلة، لكن من يعرف القيمة التاريخية أو المعنوية للقطعة أو البساط أو السجادة التي يملكها يقدّر مهنتنا تقديراً عالياً ويعرف أنها تجمع الفن والصنعة والمتعة والمال معاً.
كل الشعوب حاكت السجاد!
يخبرنا الرواس أن مهنة صنع السجاد اليدوي من أقدم مهن الشعوب وأكثرها انتشاراً عند البشر وتفننوا في رسومها وزخارفها والرموز المرسومة عليها لدرجة أننا نستطيع معرفة بلد المنشأ من النقشة الظاهرة ومن ألوانها. وبعض أهم النقشات انتشاراً عالمياً كانت نقوش بخارى أولاً لجودتها، وثانياً لأن معتقدات الأجانب كانت تقول عنها إنها تطرد الأرواح الشريرة من البيوت… السجاد الفارسي الإيراني لا بدّ أن نعترف بأسبقيته وتميزه وانتشاره لأن بلادهم كلها تنتج السجاد كثروة وطنية لهم، ثم هناك السجاد التركي الذي وبطلب خاص من السلطان عبد الحميد أنتج الحرفيون الأتراك قطعَ سجاد نادرة جداً اسمها “حركة أو هَرَكه” مشغولة من الحرير والذهب كأنها قطعة متحفيّة عالمية…. ثم السجاد الروسي والكشمير الهندي والأفغاني…الخ
عداوة كار أم غيرة!؟
نسأل الرواس عما يسمّى غيرة أهل الكار (أهل الحرفة ذاتها) يضحك ويجيب: التنافس وليس العداوة بين الحرفيين أو غيرة الكار موجودة، بل وبكل صراحة ضرورية! كان والدي يربيني على جملة: أن الرزق والتوفيق من الله؛ لكن يجب أن أكون أشطر من الجميع! كان يردد مثلاً شعبياً ينقشه في عقلي حين يقول: “أحلى مني؛ خلقة الله، بس أشطر منّي؛ دمّي حامي”… أي إن تنافستُ مع أي شخص وكان أجمل مني فهذا الجمال من خلق الله ولا يدَ لي فيه؛ لكن أن يكون أكثر مهارة وشطارةً مني فهذا ما لا يحتمله دمّي ولا يمكن أن أقبل به”!
النزاهة، الإخلاص، المهارة، الصبر، الصدق، والشغف… كلها صفات مطلوبة جداً وبشكل أسساسي لأي شخص يريد احتراف مهنة صناعة و “رَتِي” السجاد اليدوي…وإلا سيصبح كشخص جاهل يتعامل مع جواهرَ نفيسة وهو يعتقد أنها مجرد حجارة ملونة.