قبل أن يستيقظ البحر للشاعر حسين السياب .. تحولات حداثوية وتطورات للمخزون الشعري

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية ـ هويدا محمد مصطفى:

هي تلك الروح التي تنهض بالشعر عالياً ليعانق بروحه الحب، وليكتب القصيدة لوحات سردية حية متحركة، حين تمتزج المحبة بالروح. فهو، حتماً، يغسلنا من أتعاب الحياة ومشاقها وهمومها. وحين يكون الشعر ثورة الكلمة، ولغة القافية التي لا تفتأ تصرخ ملء الشاعرية والشعرية، لتكشف أعماق ذاتية الشاعر الذي يخلق من أبجديته مشاعره وآلامه.

فالعنوان “قبل أن يستيقظ البحر” خطاب مستقل عن خطاب القصيدة، لكن مدار الدلالة وبؤرة المعنى واحد، توازي ما جاء في فنون القصيدة من شجن وقلق ولهيب يلفح ضلوع الشاعر. كما للقصيدة شعريتها، كذلك للعنوان شعريته. ثمة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان؛ فهي علاقة الجزء بالكامل، وعلاقة الباب بفناء الدار.

فكيف يكون الشعر حين ينقلنا الشاعر من الخيال إلى الواقع والتصوير المترادف مع ما نسميه “التجسيم”؟ وهذا ما يجعل الشعر قريناً للرسم، ومشابهاً له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقي. كما جاء في نص بعنوان “سلام على مداد العمر”:

خلف نوافذ الحزن، يتساقط الأمل،
تتساقط الأيام.
في هذا العالم، أسير على حافة الطريق،
أركض خلف أغانٍ مهجورة،
لأسدد ديون الحب المتراكمة منذ فجر الحزن.

هنا نجد معاني سيكولوجيا المبتغى، وتساؤلاً كبيراً له معانيه ومناخاته، ودلائل الحيرة التي تسكن خلجات الذات. ونجد أن هناك انشطارات تخلق لنا وفرة حركية في العين المتذوقة. فالتأمل الباطن صيرورة الوهج، لأن الذات الشاعرة تأبى الانكسار، وتتأثر بالمحيط. هي موائد العثرة في جنوح الآخر إلى توريطنا في صوان العمر. فالصورة البيانية والعاطفية تتجه باتجاه الانزياحات الدلالية، ما يحيط النص بفضاء القلق والاضطراب في تأملات الذات.

وفي نص بعنوان “سقطت أصابعي”:
عجباً، كيف تبدل الحال؟!
عائد إلى منفاي دون ظلي المحترق بلذة الشمس.
ما عاد كحل عينيك يرسم الصباحات الندية،
ما عدت أرمم فجوات الخيال من لهيب الحب.
في غفلة مني، سقطت أصابعي على أوراقي الرطبة.

ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة، لنجد حالة مدهشة وفيضاً من مشاعر مختلفة، ناتج عن هذا التنوع الصوتي الصوفي. لتتالى عاصفة تطاول المستحيل. ونجد الموسيقى المستمدة من وقع الكلمات ذات جرس واحد، فهي ليست محض حيل فنية، بل تؤكد حالة تقريب الشكل من المضمون. فالصورة الشعرية في هذه القصيدة طاغية في كل مقاطعها، حيث اعتمد الشاعر اللغة الإيحائية الشعرية، مبتعداً عن اللغة المعيارية المباشرة. فمزج بين الواقعية والخيال بأسلوب فريد، لتحريك ألفاظ النص لتراقص موسيقاه بعيداً عن الرتابة، مع إضفاء فيض من الحيوية.

وفي نص بعنوان “عزف الرمال”:
كل شيء تغير،
حتى الصباح
صار ينتظر،
يحسدني على عهد شوق قديم
سكن الفؤاد.
يغني
عندما تعزف الرمال على أصابع قدميك.
وأنا
أقبل ألحانها حدّ السماء،
يا كل جنوني
المعلن في طرف الغياب.

نجد أن الشاعر تعمد الكتابة بروح محلقة شكلاً ومضموناً. لتأتي القصيدة وكأنها لوحات متعددة الألوان، بمفردات متنوعة وعالماً خاصاً، بلغة مثقلة قوية وألفاظ جزلة. يكتمل فيها الشوق بالجرح، والخوف، والوحدة بالأنين، من بعيد إلى ولهِ الوجد والنشيج. فيأخذنا إلى محراب الحب عبر دلالية التشكيل الشعري والانفعال العاطفي، لخلق صورة فنية ثرية الدلالة متوهجة، رغم أنها هادئة الإيقاع.

وفي نص بعنوان “باب عطرك الأخير”:

كنت أبحث عن ظلي في انكسار الضوء،
عن يقيني في فوضى الدروب،
عن لحظة لا يخونني فيها المعنى.
لم يكن العالم حقيقياً، سيدتي،
لكنه مرّ بي
كأنه حلم ثقيل،
أو نداء تأخر كثيراً عن الفهم..؟!

يظهر هنا الشاعر جدلية علاقة الانتماء بالزمن وذاكرته، حيث وظف الشاعر مفرداته اللغوية من خلال التراكيب وأنساقها. فكتب الذات الواقعية الحية، وانطلق بدءاً منها إلى أبعاد جديدة لتكوين الدلالة العامة، وإظهار التجديد في الحالة الشعرية. فنلاحظ ذلك الصراع، وكيف يجري بين الذاكرة والصور المختزنة، والتي تتزاحم فيها الكثير من المؤثرات التي تؤدي الوظيفة الجمالية المنوطة بها، من خلق الحقل الدلالي الذي تتحرك ضمنه المعاني المتولدة عن الركازة الفنية التي تختزنها الصورة المركبة عبر تراكيب شعرية عالية المستوى وقوية الفاعلية.

ويتناوب في شعره ما بين ثنائية الكشف والتجلي، والغموض والوضوح، حيث يتفاعل القارئ مع شعره. إذ تسيطر الإيحاءات الرمزية على قدر من الصور الفنية.
وأخيراً أقول: إن المجموعة الشعرية “قبل أن يستيقظ البحر” تكمن قصائدها في صورها، وهي تنتمي إلى الخيال الميتافيزيقي. فالصورة البصرية والاستعارات، وحتى اختياره لعناوين مثل: “ضباب المرايا”، “سقطت أصابعي”، “خطيئة مقدسة”، “شيفرة حلم”، “نبي الياسمين”، “أسوار الحنين”، يصلنا الشاعر بحداثته، وينطلق من مجال مفتوح الرؤية متوجهاً نحو عمق الأشياء. إنه نص المعنى، حيث يكتشفه المتلقي خلف الفكرة المطروحة في النص الشعري، التي تسير سيراً منسقاً ومألوفاً، تشعرك وأنت تقرؤها بأنك مرتفعٌ لمستوى تتوهج فيه الحالة الإبداعية ضمن الإطار الزمني والمكاني.

وزادت جمالية المجموعة الرؤية المثيرة للطرح. فيظل النص منذ عتبة العنوان يكشف طوال الوقت صوراً شعرية متحررة، وفضاء التجديد بين مسافات الذات والرؤية، والنداء في المدى والأفق اللامتناهي، في “قبل أن يستيقظ البحر”.
المجموعة الشعرية “قبل أن يستيقظ البحر” للشاعر العراقي حسين السياب. صدرت عن دار منازل للنشر والتوزيع في مصر، وتضم المجموعة ثلاثة وخمسين نصاً شعرياً حداثياً.

Leave a Comment
آخر الأخبار