الحرية – جواد ديوب:
يقول أهلُ الطرب: “مَن سَمِعَ الغناءَ على حقيقتِه مات”!… والموتُ هنا أجملُ أنواع الموتِ -إن صحّ الوصفُ وإنْ شَطَحَ الخيال- لأنه الموتُ طرباً بالصوت النقيّ، وانتشاءً بالموسيقا السابحة مع الجينات، لأنه خفقانُ القلوب على إيقاعٍ كونيٍّ يجعل مساماتِ الجسد تتفتّح على مداراتِ كواكبها، ويُفيّقُ منمنماتِ الأرواح فيجعلها تتناغم وتتعاشق على إيقاعِ تنفّسِ الكون.
حلب أمّ الطرب!
لعل هذا ما يحصلُ أيضاً لمحبّي الطرب الحلبي؛ عُشاقُ صبري مدلّل أحد أشهر “شيوخ كار” النّغم الحلبي، و”محمد خيري” ملِكُ الموّال السبعاوي، وصباح فخري “صنّاجة العرب”، وكل عمالقة “القدود الحلبية” الذين أبهجوا الملايين؛ فهي رغم ما يقال عن أصلها السرياني أو ما يشاع عن إنها أندلسية الهوى؛ لكنها ليست نوعاً موسيقياً دخيلاً على نسيجِ مدينةٍ شربت الغناءَ مع مائها، وزرعتهُ في الزوايا والتكايا والحنايا مثل شجر الروح، ولا هي بالـ”هجنة” النغميّة النافرة التي تضرب بمقارع السخافة على أسماعنا، بل هي ترجيحُ كفّة ميزانِ النّغم نحو أصالة مدينةٍ أبدعتْ من رحِمِ زمانها ومكانها لونَها التطريبيّ المميز فصارت تُكنى بـ”حلبْ أمّ الطرب”، وصارَ هو مقياس التغزّل بـ”قدّها” الميّاس وقوامها وقيمتها، وأثّرَ في العديد من الملحنين مثل عبقري الموسيقا العربية بليغ حمدي حينَ جعلَ العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ يصدَحُ منتشياً ومتأثراً بالفولكلور السوري الحلبيّ: “قدُّكَ الميّاس يا عمري/ أيقظَ الإحساس في صدري/ أنتَ أحلى الناس في نظري/ جلّ مَنْ سوّاك يا قمري”.

أحقية تاريخية!
واحتفاءً بالذكرى الرابعة لتسجيل القدود الحلبية على قائمة التراث الإنساني في اليونسكو يوم 17 ديسمبر عام 2021
…سألنا الفنان صفوان العابد -وهو أحدُ عمالقة الطرب الحلبي المعاصرين- عن معنى وأهمية هذا التسجيل، يقول: “إن ميزة القد الحلبي أو الأغنية الحلبية على وجه التحديد هي الكلمات واللحن المصوغان ببساطة وسلاسة من أجل أن يتقبّلها المثقف والإنسان العادي في البيئة الحلبية، وأغلب القدود تأتي من طابع الأرض أو الماء العذب وهي ليست بحزينة إنما هي فرِحة تتغزل بالمرأة الحلبية أو بقلعتها أو بحاراتها القديمة (مثل: أول عشرة محبوبي/سمرا الكحله بتلبقلك/ هالأسمر اللون/ قدك المياس يا عمري) والكثير من القدود والأغاني الفرحة القديمة والحديثة التي لا تخلو من روح الطرب الأصيل؛ والاحتفاء بالقدود عالمياً يعني الاعتراف بأحقية حلب التاريخية بهذا النمط، وشهادة عالمية تجعل أهل الكار الغنائي يهتمون أكثر بدعم المطربين الذين يؤدون هذا اللون التراثي”.
فيما يشرح لنا المايسترو نزيه أسعد معنى القدود لغوياً وموسيقياً، يقول:” بالنسبة للأغنية الحلبية، معروف عنها أنها تُعدُّ على الخط الصوفي وتحديداً (القدّ/ وهو لغةً: القِدّ أي المسار أو الخط الديني) أي تغيير الكلام الغزلي المنظوم على لحن معين إلى كلام آخر على اللحن نفسه. وحين نلتمس الكلمات الحزينة في القدود فهي تأتي بمعاني الرحمة والتضرّع والخشوع لله، وهذا يفرض حالةَ الشجنِ والحزن نتيجة فكرة مخاطبة الإنسان لله عزّ وجلّ، وطلب المغفرة والرحمة منه. لذلك حصل هذا التحوّل في القد نفسه؛ بمعنى من غير المعقول أن تبقى الكلمات فرحةً بمصاحبة لحنٍ حزين، أو كلماتٌ فيها خشوعٌ وشجنٌ مع لحن فرح. وهكذا اتّسمت القدود بهذا الطابع (مثل: ويلاه من نار الهجران/وبقلبي حسرة ونضرة يا أم المحبوب) لكن ذلك ليس شرطاً ملازماً للأغنية الحلبية إذ بقيت هناك أغانٍ غزلية بكلمات لها طابع سعيد مرِح مثل (جاني حبيبي أبو الحلقة باللهجة العامية الحلبية/ وقدّك المياس يا عمري) ومعظمها فيها طابع طربي كجمل موسيقية شرقية”.
على قدّ قلعة حلب!
ولذلك ولأجلكِ يا حلب، ولعينيكِ أيتها “المدينة المبدعة” يا ولّادة العظماء، يا مَنْ أهديتنا قدودَك مُعادلاً وجدانيّاً لقلعة حلب فجعلتنا ممسوسين عشقاً بكِ… لأجلِ ذلك كلّه نحتفي ونغنّي: “فوق إلنا خلّ”، و”عالروزنا”، و”يا مال الشام”.. ونترك القلبَ يرقصُ فرحاً.