الحرية- سامي عيسى- مركزان الخليل:
اليوم وما سبقه من أيام وسنوات، لم يختلف فيها واقع الإنتاج الصناعي، فكان ما بين عمليات “مد وجزر”، وما بين اليوم أفضل، وبين غدٍ يحمل الكثير من السوء، واقع ألفناه وما زلنا نألفه، لأن الظروف متشابهة، وحتى الحلول المقترحة، متشابهة إلى حد بعيد، الأمر الذي وضع الصناعة الوطنية على مفترق طرق خطير، ليس في هذه المرحلة فحسب، بل منذ سنوات مضت، فرضت واقعاً سيئاً، تحتاج فيه لخيارات إنقاذية، تتماشى مع ملامح المرحلة المقبلة، وتتفق مع أهدافها، تترجمها استراتيجية صحيحة، تعتمدها الحكومة، وهذه قد تصيب، أو تخيب، تبعاً لما يتوافر لها من أدوات تنفيذ، ومعالجة صحيحة لكافة معوقات العمل الإنتاجي..!
لكن اليوم أهل الإنتاج ليس الصناعي فحسب، بل الزراعي أيضاً محكومون بخيار واحد، لا يحمل التأويل، أو حتى التفسير بخلفيات أي جهة إنتاجية وضعت هدفها “الأول والأخير” الإنتاج لتأمين حاجة السوق المحلية، ضمن تركيبة مكون الحالة الاقتصادية التي فرضتها الظروف المحيطة باقتصادنا الوطني اليوم, والذي لم يذق فيها طعم الراحة والاستقرار منذ عقود، بسبب أزمات وصعوبات، لازمته لعقود مضت وما زالت على أشدها، خاصة ما يتعلق بالمكون الصناعي وإنتاجيته، في ظل ظروف حصار اقتصادي وعقوبات ظالمة، تعتبر الأخطر في تاريخ البشرية لأنه يستهدف المواطن في معيشته اليومية، قبل استهداف مكونات الدولة الاقتصادية والخدمية وغيرها كثير..!
بحاجة لانسجام أفضل
هذا واقع لا نحسب أحداً ينكره، فاليوم الصناعة الوطنية تقف على مفترق طرق متعددة، وخاصة بعد التحرير، الذي واكبه انفتاح الأسواق السورية، أمام كل منتجات دول العالم، وبالتالي إما أن تثبت تواجدها وبقوة في الأسواق، وتشكل حالة انسجام إنتاجية تمتد مساحتها على كامل الجغرافيا السورية، وتختار الطريق الصحيح، وإما أن تخسر حصتها في الأسواق الداخلية والخارجية، من خلال سلوك الطريق الخاطئ، وبالتالي السؤال المهم والأهم هنا، ما هي أهم تحديات اليوم التي تواجه صناعتنا، والأكثر أهمية ما هي متطلباتها واحتياجاتها للنهوض بها وإثبات تواجدها في كل الأسواق المحلية والدولية..؟!
نحلاوي: رسوم مدخلات الإنتاج مرهقة قياساً للجيران، وأصبحنا سوقاً مفتوحة لكل البلدان والعكس صحيح.. مغلقة أمامنا..!
أسئلة في غاية الأهمية يرى فيها نائب رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها الأستاذ لؤي نحلاوي، أن التحديات التي تواجهها الصناعة الوطنية، هي تحديات كبيرة وجسيمة خاصة في ظل غياب حماية الصناعة الوطنية، وخفض نسبة الجمارك على المنتجات المستوردة التي وضعتها وزارة الاقتصاد خلال الفترة السابقة، والتي لا تكفي لحماية الصناعة، في ظل ارتفاع كلف الإنتاج الصناعي، كارتفاع أسعار المحروقات والكهرباء، وكلف الجمارك على مستوردات المواد الأولية، مقارنة مع دول الجوار، موضحاً في مثال عن ذلك مع لبنان، (وليس مع مصر وتركيا)، فإن مدخلات مواد الإنتاج في لبنان صفر جمارك، بينما في سوريا قيمة الرسوم بالإجمال التي يتم دفعها تصل ٣٠٠ دولار وأحياناً تصل في بعض المواد الأولية إلى ٥٠٠ دولار على الطن، وبالتالي فإن النسبة تصل إلى ٣٠٪ لبعض المواد وبعضها إلى ٤٠٪، ويمكن في بعض المواد إلى ١٠٪ ، باستثناء الحديد الذي انخفضت نسبة الجمارك عليه
معاملة بالمثل..!
وأوضح نحلاوي خلال رده على سؤالنا حول تغير المناخ المحلي والدولي تجاه صناعة الوطنية، أن سوريا اليوم أصبحت سوقاً مفتوحاً تجاه كل العالم، حيث نقوم بالاستيراد من تركيا وكل الدول، ونستورد من الأردن بينما الأخيرة لا تستورد من سوريا، لافتاً إلى أن هناك بيئة مناخ ممتازة بالنسبة لدول الجوار، إلا أنهم لم يفتحوا أسواقهم للمنتجات السورية، بغض النظر عن التكاليف المرتفعة أو الرخيصة، وخاصة أن هناك بعض الصناعات السورية، لديها القدرة على المنافسة، وبالتالي لم تتأثر كل الصناعات بارتفاع التكاليف، متطلعاً إلى المعاملة بالمثل مع الدول المجاورة، ومنها الأردن في كل شيء…!
نحلاوي: حبس السيولة في المصارف، والتأخير في دفع المستحقات، يضعف سوق الاستثمار، وهروب رأس المال المحلي والخارجي..!
وبخصوص تأثير إلغاء بعض القرارات التي كانت تعوق الصناعة ومنها المنصة، أشار نحلاوي إلى أن التكاليف انخفضت بإلغاء المنصة، إلا أننا لسنا مثاليين بكلف التصنيع السورية، منوهاً في مثال، بقدوم شركة إماراتية لإنشاء معمل وبعد دراستها لبيئة العمل في سوريا لم يتشجعوا لإنشاء المعمل، وإنما قاموا بإنشائه في لبنان، كون بيئة العمل في لبنان جيدة والجمارك صفر، مبيناً أن المستثمرين الأجانب الذين يرغبون بالاستثمار في سوريا، عندما يقومون بإجراء دراسة ومقارنتها مع دول الجوار يذهبون إلى لبنان والأردن، لأن الامتيازات الموجودة في هذه البلدان لا توجد في سوريا، ككلف الطاقة، والاستيراد، والإدخال المؤقت الميسر، موضحاً أن كل هذه الأمور التي يتطلبها الاستثمار غير موجودة في سوريا.
واقع مشجع للهروب
وقال نحلاوي: أي مستثمر أجنبي إذا جاء إلى سوريا غير معتاد على وضع مليارات وملايين في خزنته حتى يتعامل بالنقد للبيع والشراء، خاصة أن كل دول العالم تعمل بموجب المصارف والبنوك في التحويلات، والإيداعات والسحب، لافتاً إلى أن حبس السيولة اليوم في البنوك، وعدم دفع المستحقات لأصحابها بغض النظر عن المنصة، كل ذلك يدفع بالمستثمرين للهروب، مؤكداً أن المستثمر يحتاج إلى بيئة استثمار وعمل مريحة حتى لو كان سورياً، وبالتالي الوضع يحتاج إلى إعادة نظر، مع كامل الاحترام للحكومة، التي يجب أن تعمل على معالجة الكثير من النقاط السلبية، منوهاً بأنه حتى الآن لا يوجد تشاور أو تعاون مع غرف الصناعة والتجارة، والقرارات التي تصدر لا نعلم بها إلا من خلال الإعلام مثل كل الناس، آملاً أن تكون الأيام القادمة أفضل لسوريا، في ظل وجود بعض التحسن، والذي نريده أن يكون أسرع من ذلك، وخاصة أننا لا نريد لصناعتنا التراجع، ولا خسارة أسواقنا المحلية والدولية، آملين اتخاذ إجراءات سريعة لها علاقة بالتنمية وبتشغيل اليد العاملة، خاصة أن هناك ٤٠٠ ألف سوري عادوا إلى سوريا منذ التحرير، وإن كل هؤلاء يحتاجون لفرص عمل، وبالتالي يتطلب ذلك تحسين بيئة العمل، وتشجيع المستثمرين سواء السوريين، أم الأجانب للاستثمار في سوريا، وتوسيع الاستثمارات القائمة.
آمال بالحلحلة..!
والكثير من أهل الإنتاج والتجارة يحملون نفس الأفكار والرؤى في الحلول لمعظم معاناة القطاع الصناعي بشقية الخاص والعام، لكن الاختلاف في طرق التنفيذ، وهذه مرتبطة باتجاهات كل قطاع، وحتى المنتج بحد ذاته، وهنا يؤكد عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق محمد لؤي برهان الدين أشقر أن الصناعة السورية أمام تحديات كبيرة، وآمال جديدة “بالحلحلة”، وهناك رؤية شاملة للوضع الراهن، معتبراً أن أهم التحديات التي تواجه الصناعة السورية اليوم تتمثل في استمرار نقص التمويل والسيولة، وصعوبة حصول الصناعيين إلى القروض الإنتاجية المناسبة، إضافة إلى تضرر البنية التحتية، وارتفاع تكاليف الطاقة والنقل، ما يزيد من كلفة الإنتاج، وارتفاع أسعار المواد الأولية، سواء المحلية أو المستوردة، ما ينعكس على السعر النهائي للمنتجات.
الأشقر: مناخ محلي وخارجي غير مشجع، في ظل عقوبات وحواجز اقتصادية حلولها ما زالت أقاويل، أبقت على محدودية انتشارنا محلياً وعالمياً..!
وبيّن الأشقر أن من التحديات أمام الصناعة ضعف القدرة التصديرية، بسبب استمرار العقوبات الاقتصادية وصعوبة الوصول إلى أسواق خارجية مستقرة، وهجرة الكفاءات والعمالة المهرة، ما أثر سلباً على جودة وكفاءة العمل الصناعي، وتذبذب السياسات الاقتصادية، ما يوجد حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين والصناعيين، ومنافسة البضائع المستوردة (أحيانًا بطرق غير رسمية)، ما يهدد المنتج الوطني.
انتشار محدود وحذر..!
أما فيما يتعلق بأثر التغيرات في المناخ العام المحلي والدولي تجاه الصناعة السورية، أوضح الأشقر أنه يمكن النظر لهذه المسالة من خلال مستويين: الأول محلي، حيث إنه يوجد توجه رسمي لدعم القطاع الصناعي من خلال تخفيف الإجراءات، مثل إلغاء المنصة وبعض القيود، لكن التنفيذ العملي لا يزال بحاجة إلى تسريع ودعم أكبر، والمستوى الثاني خارجي: يتمثل ببقاء العقوبات والحواجز الاقتصادية التي ما زالت قائمة حتى تاريخه رغم وعود الكثير من الدول، وبعض الانفتاح النسبي في بعض المحافل الإقليمية، ما يجعل انخراط الصناعة السورية في الأسواق العالمية محدوداً وحذراً.
وبالتالي حتى نصل إلى انتشار واسع في الأسواق العالمية لا بد من إجراءات واضحة وفاعلة خلال المرحلة المقبلة في مقدمتها توفير التمويل الصناعي وبشروط تحمل السهولة واليسر في القبض والسداد، وبفوائد معقولة وآجال زمنية مناسبة، واستقرار القوانين والقرارات الاقتصادية، بما يضمن وضوح الرؤية أمام المستثمرين، وتأمين الطاقة، بأسعار منافسة ومن دون انقطاع، وتسهيل استيراد خطوط الإنتاج الحديثة، وتحديث المعدات الصناعية، بالإضافة إلى دعم الصناعات الوطنية عبر فتح أسواق تصديرية، جديدة، وتسهيل النقل والشحن داخل سوريا وخارجها، لتحسين حركة البضائع.
وبرأي الأشقر أن حبس السيولة وتذبذب أسعار الصرف، لها الأثر السلبي الأكبر على دورة العمل الصناعي، من خلال الحد من القدرة على شراء المواد الأولية، وتوسيع خطوط الإنتاج، أما انخفاض سعر الدولار، فقد يكون إيجابياً من حيث تقليل كلفة استيراد المواد الخام، لكنه قد يحمل جانباً سلبياً إذا كان التراجع مفاجئاً وغير مستقر، ما يربك حركة السوق والتسعير ويؤثر على التخطيط المالي للصناعيين.
دعم وهمي
ويرى الباحث الاقتصادي عصام تيزيني أن أهم الصعوبات التي تواجه الصناعة السورية اليوم هي انتقال الصناعيين من جو العمل تحت ما يسمى “حماية الصناعة الوطنية” إلى جو العمل في ظروف الانفتاح، والتنافس مع ما يأتي من الخارج، حيث انعدمت الحماية الموجهة، التي بدأت أول تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ وعي الجيل الثاني من قتلة الاقتصاد ومصاصي دماء البسطاء، حيث تشكلت حينها ثقافة الدعم الوهمي للصناعة والحماية، ومنع استيراد المنتجات المماثلة فصارت مراكمة الثروات أمر سهل بسبب إقصاء المنافس..
تيزيني: “الحماية الموجهة” السم الذي قتل الصناعة الوطنية وإبداعاتها والتي خصصت لخدمة الصناعي فقط، أما المستهلك فهو آخر المستفيدين بدل أن يكون أولهم
إنها الحماية الموجهة “السم الذي قتل الصناعة الوطنية وإبداعاتها، هذه الحماية التي كانت تخدم الصناعي فقط أما المستهلك فهو آخر المستفيدين بدل أن يكون أولهم، وهذا ما يفسر اعتراض الكثير من الصناعيين الآن، على إنهاء سياسة إحلال بدائل المستوردات التي كانت معتمدة، هذه السياسة التي دمرت الصناعة السورية، لأنها جعلتها تتراخى وتهمل نفسها، وكل ذلك كان يتم بأيدي الصناعيين أنفسهم ونفوذهم وضغطهم وخصوصاً الحيتان منهم وبالتعاون طبعاً مع وزراء السلطة البائدة..!
المشكلة الحقيقية التي تواجه الصناعي السوري الآن متعلقة به نفسه وبقدرته على التنافس، واقتناعه بمنطق الربح الناتج عن الكفاءة، وليس الربح الناتج عن الحماية، أما الحديث عن طلبات من الحكومة الحالية بحماية وكهرباء وتخفيض ضرائب وسيولة، ونقد وسعر صرف وسواها (طبعاً مع أحقية بعضها)، فهذا من باب الحفاظ على المصالح الخاصة وليس العامة، كما هو واجب على الجميع الآن والآن ثم الآن تحديداً..!
خلاصة الأمر
وبالتالي فالصناعة الوطنية اليوم بحاجة إلى بيئة مالية مستقرة، ودعم حكومي مدروس، وإستراتيجيات تصديرية فعالة، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي، ليكون بمقدورها العودة كقاطرة حقيقية للنمو الاقتصادي الوطني، وتحمل أعباء المرحلة الحالية والمقبلة، والتي نحتاج فيها لكل الجهود والخبرات والكفاءات وتسخيرها لاستثمار كل الموارد التي تؤمن نقاط القوة لاقتصادنا الوطني، وتؤدي بالضرورة إلى تحسين مستوى معيشة الناس وإيجاد حالة اجتماعية واقتصادية تتصف بديمومة الاستقرار، وهذا حلم كل مواطن، فكيف هو الحال مع أهل الإنتاج، وأهل التجارة والاقتصاد..؟!
وهذا حلمنا جميعاً أن نرى اقتصادنا الوطني، محمياً بقوة إنتاج قوامها، الجودة والسعر، ومعادلات المنافسة الشريفة التي تدخلنا الأسواق من أوسع أبوابها.ِ