قوس النصر في اللاذقية… حجرٌ ينهض من التاريخ ويعود إلى الحياة

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – نهلة أبو تك:

في قلب حيّ الصليبة، حيث تختلط رائحة البيوت القديمة بصوت الخطى العابرة، يستعيد قوس النصر في اللاذقية حضوره كأحد أبرز المعالم الأثرية في الساحل السوري. لم يكن هذا الأثر الروماني، الذي يمتد عمره لأكثر من ألفي عام، مجرد بقايا حجرية صامتة؛ بل علامة حيّة تؤكد أن اللاذقية مدينة تحفظ ذاكرتها وتنهض من بين طبقات الزمن مهما تبدّلت الظروف.

اليوم، يعود القوس ليحتل مكانه في الواجهة، بعدما أطلقت محافظة اللاذقية حملة شاملة لإعادة تأهيل الموقع ومحيطه، في خطوة يراها المختصون مدخلاً لإعادة دمج هذا الأثر ضمن المشهد الحضري والسياحي للمدينة، بوصفه أحد أهم شواهد تاريخ اللاذقية ورمزاً لجذب الزوار.

معمار روماني نادر وصوت من القرن الثاني

يؤكد الباحث التاريخي بسام جبلاوي في حديثه  للحرية أن قيمة القوس تتجاوز مظهره المعماري.

ويقول: قوس النصر بُني على الأغلب في أواخر القرن الثاني الميلادي خلال حكم سبتيموس سيفيروس. الشكل الرباعي الذي يتخذه التترابورتكوس يضعه في مصاف مراكز المدن الرومانية الكبرى، ما يعكس مكانة اللاذقية آنذاك كميناء نشط ومدينة ذات أهمية سياسية واقتصادية.

ويضيف جبلاوي:هذا النوع من الأقواس لم يكن مجرد نصب احتفالي، بل نقطة مركزية تربط شوارع المدينة وتتحرك عبره التجارة والحياة اليومية. وحين نحافظ عليه اليوم، فنحن نعيد وصل حاضر المدينة بماضيها.

تأهيل القوس… مدينة تزيل الغبار وتفتح نوافذها على الضوء

وليس بعيداً عن قيمته التاريخية، جاءت حملة التأهيل في توقيت لافت، إذ انطلقت تزامناً مع الاحتفالات التي تشهدها اللاذقية بمرور عام على التحرير. كان المشهد أشبه بعودة المدينة إلى نفسها: فرق العمل تنظّف الأوابد الحجرية، تزيل التراكمات، تقلم الأشجار، وتحسّن المشهد البصري للمنطقة، في محاولة لإحياء الأماكن التي طالتها يد الإهمال لسنوات.

هذه الخطوات ليست مجرد أعمال خدمية، بل جزء من رؤية أوسع لتجهيز الموقع ليكون محطة أساسية ضمن المسار الثقافي والسياحي للمدينة القديمة، بما يعيد الحيوية إلى قلب اللاذقية ويخلق نقاط جذب جديدة تعزز الحضور السياحي والثقافي.

ويعلّق جبلاوي على هذا الحراك قائلاً:

إعادة الاعتبار لقوس النصر خطوة تعكس رغبة حقيقية في ربط الناس بتاريخهم. عندما يُعاد تقديم أثر بهذا الحجم والقدم، تتعزز صلة المواطن بهويته وبمدينته.

معلم يتجاوز دوره التاريخي

ورغم صغر حجمه مقارنة بالمنشآت الرومانية الضخمة، إلا أن موقع القوس في وسط المدينة منحه قيمة استثنائية. فهو واحد من القلائل التي بقيت قائمة وسط العمران الحديث، يشكّل نقطة بصرية وتاريخية تلتقي عندها الحكايات، ويتيح للمدينة فرصة لإعادة اكتشاف عمقها الحضاري.

كما يرى خبراء الآثار أن القوس يمكن أن يكون محوراً لمنتج سياحي جديد يعتمد على إحياء قلب المدينة التاريخي وربطه بخدمات ثقافية وتجارية تعيد نبض الحركة الاقتصادية إلى المنطقة.

حين تستعيد اللاذقية ذاكرتها… تستعيد صورتها

ما يحدث في محيط قوس النصر يتجاوز حدود الترميم. إنه فعل استعادة لروح مدينة عاشت تقاطعات حضارية لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. فكل حجر في هذا القوس، وكل ظلّ تلقيه شمس الشتاء على الأرض، هو امتداد لقصة طويلة لا تزال تُكتَب.

ومع استمرار الجهود في حماية هذا الموقع ورعايته، يستعيد القوس مكانته الطبيعية

كمعلم حيّ، وذاكرة نابضة، وشاهدٌ على مدينة تعرف كيف تنهض كلما عاد إليها الضوء.

Leave a Comment
آخر الأخبار