الحرية – رنا بغدان:
تعتبر “كسوة الكعبة المشرّفة” شرفاً عظيماً في العالم الإسلامي ومن أهم مظاهر الاهتمام والتشريف والتبجيل للبيت الحرام، كونها إحدى الشعائر الإسلامية، واتباعاً لما قام به النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة ثم واصل من بعدهم ملوك الإسلام والسلاطين في شتى العصور من تعهدٍ بكسائها. ما لبثت الكعبة معظمة في شرائع الأنبياء ويُولى إكساؤها أهمية جليلة إلى يومنا هذا.
“الكسوة” هي قطعة من الحرير الأسود المنقوش عليها آيات قرآنية من ماء الذهب والفضة، تُكسى بها الكعبة المشرفة، ويتم استبدال الكساء سنوياً في مطلع كل عام هجري جديد، ذلك بدلَ الموعد القديم الذي كان يوافق “يوم عرفة” خلال موسم الحج. وأما رفع كساء الكعبة المبطن بالقماش الأبيض في موسم الحج، فإنما يُفعل لحمايتها من قطعها بآلات حادة للحصول على قطع صغيرة طلباً للبركة أو الذكرى.
فبعد فتح مكة أبقى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على كسوة الكعبة ولم يستبدلها حتى احترقت على يد امرأة أرادت تبخيرها. فكساها الرسول بالثياب اليمانية، ثم كساها الخلفاء الراشدون من بعده بالقباطي المصري والبرود اليمانية، وكان عثمان أول رجل في الإسلام يضع على الكعبة كسوتين إحداهما فوق الأخرى، الأولى بالديباج يوم التروية والأخرى بالقَبَاطي يوم السابع والعشرين من رمضان،
ولم يكن للكسوة ترتيب خاص من قبل الدولة وبيت مال المسلمين، فقد كان الناس يكسونها بما تيسر لهم من قطع متفرقة من الثياب ومن دون التقيد بلون خاص، بل حسب ما تيسر لأحدهم ولو بجزء وناحية من البيت.
وفي عصر الدولة الأموية اهتم الخلفاء الأمويون بكسوة الكعبة، ففي عهد معاوية بن أبي سفيان كسيت الكعبة كسوتين في العام: كسوة في يوم عاشوراء والأخرى في آخر شهر رمضان استعداداً لعيد الفطر. وكانت كسوة الكعبة ترسل من دمشق، حيث تصنع من أحسن الأقمشة وأفضلها وترسل إلى مكة المكرّمة من منطقة على أطراف دمشق والتي سُميت “الكسوة” تيمناً بذلك، حيث اشتهر “محمل الحج الشامي” الذي كان ينطلق من دمشق بجموع الحجيج المجتمعين من كل البقاع ومن دول كثيرة في الشرق ووسط آسيا، كما أن معاوية كان أول من طيّب الكعبة في موسم الحج وفي شهر رجب.
أما الكتابة فقد ظهرت على كسوة الكعبة المشرفة منذ بداية العصر العباسي حين اهتم الخلفاء العباسيون بعد الأمويين بكسوتها اهتماماً بالغاً لم يسبقهم إليه أحد، نظراً لتطور النسيج والحياكة والصبغ والتلوين والتطريز، وبحثوا عن خير بلد تصنع أجود أنواع الحرير، فوجدوا غايتهم في مدينة “تنيس” المصرية التي اشتهرت بالمنتجات الثمينة الرائعة، فصنعوا بها الكسوة الفاخرة من الحرير على أيدي أمهر النساجين، إضافة إلى قريتي “تونة” و”شطا” اللتين اشتهرتا أيضاً بحرفة التطريز. وقد تعددت ألوان “الكسوة” إلى أن تمّ الاستقرار على اللون الأسود.
ثم تابعت الدولة الفاطمية والمملوكية والعثمانية كسوة الكعبة المشرفة، وأوقفوا لها ريع وقف تسع قرى للمحافظة على استمرار مصر في نيل شرف تصنيع كسوة الكعبة وزركشتها وكذلك كسوة الحجرة النبوية وكسوة مقام إبراهيم الخليل، وظلت كسوة الكعبة ترسل بانتظام من مصر بصورة سنوية يحملها أمير الحج معه في قافلة الحج المصري إلى السعودية عبر القرون، باستثناء فترات زمنية قصيرة ولأسباب سياسية، وفي عام 1397هـ. تم افتتاح مصنع الكسوة الجديد بـ”أم الجود” في مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية وتولت المملكة شرف صناعتها إلى يومنا هذا في “مصنع الكسوة” الذي يحتوي على مجموعة قيمة من التحف والمقتنيات الأثرية للمسجد الحرام والمسجد النبوي، بالإضافة إلى مراحل صناعة كسوة الكعبة المشرفة بالمصنع.
وعقب انتهاء جميع مراحل الإنتاج والتصنيع، وفي منتصف شهر ذي القعدة تقريباً، يقام في موسم حجّ كل عام احتفال سنوي في مصنع كسوة الكعبة المشرفة يتم فيه تسليم كسوة الكعبة المشرفة إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، ويقوم بتسليم الكسوة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي كما يسلم كيساً لوضع مفتاح باب الكعبة تم إنتاجه في المصنع.