الحرية – مها سلطان:
أيام قليلة فصلت بين تأكيد الدولة السورية أنها بصدد إصدار عملة وطنية جديدة مع حذف صفرين، وبين إعلان وزارة الخزانة الأمريكية إزالة لوائح العقوبات المفروضة على سوريا من مدونة القوانين الفيدرالية الأمريكية. عملياً لم يتم الربط بين كلا الإجراءين بقدر ما تم التركيز على عرض وشرح الجدوى الاقتصادية بعيدة المدى لكل منهما، ولكن بالمقابل يمكن وضع حالة التعاقب بينهما، بمنحى إيجابي إذا ما أمكننا اعتبار أن إعلان الخزانة الأمريكية يصب في تدعيم قرار إصدار عملة سورية جديدة.
ولا شك أن الجدل حول العملة الجديدة، ما بين إيجابيات وسلبيات، سيستمر إلى ما بعد إصدار العملة، ليتخذ مسارات أخرى حسب التطورات الاقتصادية التي هي بدورها مرتبطة بما تبقى من عقوبات أمريكية، وخاصة قانون قيصر، في حين أن هناك اتفاقاً عاماً على أن إزالة لوائح العقوبات خطوة واسعة ومهمة قد تقود في الأشهر المقبلة إلى إلغاء قانون قيصر، حيث تتواصل زيارات المشرّعين الأمريكيين من مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب، إلى دمشق.
ومن المعروف أن إلغاء قيصر يتم من قبل الكونغرس وليس من قبل الرئيس الأمريكي.
بالتزامن مع قرار إزالة لوائح العقوبات بدأت أنظمة عدة بنوك دولية بإظهار خيار «مصرف سوريا المركزي» عبر نظام «سويفت» في خطوة تعكس بدء إعادة تفعيل القنوات المالية السورية رسمياً
وكان قرار الخزانة الأمريكية تزامن مع زيارة وفد رسمي من الكونغرس إلى دمشق، الإثنين الماضي، هو الثاني لهذا الشهر، حيث التقى الرئيس أحمد الشرع، وكان ضمن المباحثات، عقوبات قانون قيصر.
وفيما رحبت الخارجية السورية بقرار الخزانة الأمريكية الذي دخل حيز التنفيذ في اليوم التالي، أي أمس الثلاثاء، معتبرة أنه تطور في الاتجاه الصحيح وسينعكس بشكل مباشر على الأوضاع الإنسانية والاقتصادية للشعب السوري.. قال السيناتور الأمريكي جو ويلسون، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، وكان ضمن الوفد، في منشور على منصة «إكس»: لقد حان الوقت لإلغاء قانون قيصر بالكامل. وباعتباره أولوية لإدارة الرئيس دونالد ترامب، ما زلت ملتزماً بهذا الهدف الحاسم والمشترك بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي).
أيضاً، بالتزامن مع قرار الخزانة الأمريكية، بدأت أنظمة عدد من البنوك الدولية – من بينها مصارف في تركيا وإيطاليا والسعودية وألمانيا وسويسرا وهولندا – بإظهار خيار «مصرف سوريا المركزي» عبر نظام التحويلات المالية العالمية «سويفت» في خطوة تعكس بدء إعادة تفعيل القنوات المالية السورية رسمياً، وهذا أمر بالغ الأهمية فبعد سنوات من الاعتماد على وسطاء إقليميين، يمكن للبنوك السورية الآن إجراء تحويلات مالية مباشرة مع البنوك الدولية، ما سيسهل بشكل كبير التجارة الخارجية، ويقلل من التكاليف، ويحد من المخاطر المرتبطة بالتحويلات غير المباشرة. كما يساعد على إعادة بناء الثقة في القطاع المصرفي السوري.
وكان ميناء طرطوس شهد فجر اليوم الثلاثاء دخول أول شحنة إلى سوريا من دون المرور عبر الموانئ الوسيطة في تركيا أو لبنان، حيث وصلت باخرة محملة بمحاصيل زراعية من أميركا الجنوبية وأوروبا. وقال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علوش في تصريح لمراسلة «الحرية» في محافظة طرطوس: هذه الخطوة تمثل انطلاقة جديدة لحركة الاستيراد المباشر إلى سوريا، بما يعزز انسيابية التوريدات ويؤمن حاجة السوق المحلية من المواد الأساسية.
في القراءة الاقتصادية، يرى أغلب الخبراء والمحللين أن إزالة لوائح العقوبات عن سوريا تمثل نقلة نوعية وقوية لإعادة حركة البنوك مع سوريا وتنشيط الاستثمارات عبر القنوات الرسمية، وستقدم للتجار والشركات أساساً قانونياً صلباً للتعامل عبر القنوات الشرعية، ما يحد بشكل كبير من الاعتماد على السوق السوداء التي طالما كانت منفذاً للتعاملات المالية في ظل القيود المشددة.
هذا بدوره سيعزز الثقة بالاقتصاد السوري بشكل ملحوظ ويقلل من مخاوف المستثمرين الكبار.
تتواصل زيارات المشرعين الأمريكيين إلى دمشق والتي من نتائجها كما يبدو قرار إزالة لوائح العقوبات الذي يوسع التفاؤل باتجاه إلغاء قانون قيصر
وكانت الخزانة الأمريكية أكدت أن رفع لوائح العقوبات عن سوريا سيسهم بشكل فاعل في تسهيل الحركة التجارية والمالية، ورفع القيود المفروضة على الصادرات الأمريكية إلى سوريا، ما يخفف من معاناة المواطنين ويفتح آفاقاً جديدة وواسعة للتعاون الاقتصادي والتجاري بين سوريا وأمريكا.
بالمقابل ترى الخزانة الأمريكية أن ترجمة قرارها واقعاً اقتصادياً إيجابياً سيصطدم بعقبات على الأرض، ولإزالة هذه العقبات لا بد من إصلاحات عميقة تعيد الثقة بالمؤسسات المالية السورية، وحسب بيانات غير رسمية هناك أكثر من 40 تريليون ليرة سورية (نحو 3.8 مليارات دولار) لا تزال خارج النظام المصرفي، نتيجة لسنوات من انعدام الثقة بالبنوك والعجز عن السحب بحرية.
من هنا يبدو الارتباط قائماً ما بين قرار الخزانة الأميركية والتأكيد الرسمي لإصدار عملة وطنية جديدة في ذكرى التحرير الأولى في 8 كانون الأول المقبل، باعتباره يأتي تدعيماً لهذه الخطوة، وبما يمنحها دفعة «نفسية» على مستوى الأسواق، وبين الناس.
لا شك أن إصدار عملة جديدة يمثل خطوة كبيرة على صعيد الإصلاح المالي، والسياسات النقدية، عدا عن كونه يمثل تحرراً سياسياً مما تبقى من رموز النظام البائد. العملة الجديدة هي بمثابة هوية نقدية جديدة كلياً لسوريا، بعد الهوية السياسية الجديدة.
ومن المتوقع أن يتم – في المرحلة القريبة المقبلة – إطلاق حملة إعلامية (حملة توعية) للتعريف بجوانب هذه العملة الجديدة، على مستوى التعامل والاستبدال، للمصارف والأسواق والناس. (هناك مخاوف من صعوبات عملية في الاستبدال وخاصة في المناطق البعيدة أو لدى الفئات البسيطة التي لا تتعامل كثيراً مع البنوك).
حتى الآن هناك بعض الجوانب التي تم التعريف بها، تتعلق بـ:
– التحويل المحاسبي: سيتم حذف صفرين من العملة الحالية (القديمة) (مثال: 1000 ليرة سورية قديمة ستساوي 10 ليرات سورية جديدة). وبالتالي، فإن سعر صرف الدولار لدى مصرف سورية المركزي سيصبح 110 ليرات جديدة بدل 11000 ليرة.
– التسجيل المسبق: المواطن سيتمكن من تسجيل مبالغ الاستبدال مسبقاً ليكون رصيده جاهزاً للسحب دون تأخير، وفق تصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية.
– التداول المزدوج: قبول كلتا العملتين لمدة 12 شهراً، مع تحديث الأنظمة البنكية وواجهات الدفع والفواتير وقوائم الأسعار.
– ليس هناك تخفيض رسمي للقيمة: المصرف المركزي يشير إلى أنه لا يتوقع أثراً سلبياً على قيمة العملة لمجرد إصدار العملة الجديدة. الأثر يعتمد على السياسات المًصاحبة.
لنوضح أكثر…
ماذا يعني ذلك للمواطنين والشركات؟
– الأجور والأسعار والعقود ستُحوَّل حسابياً بحذف صفرين، مع ضرورة إظهار السعر بالعملتين خلال الفترة الانتقالية لتفادي الالتباس.
– ستصبح التعاملات اليومية أسهل (فواتير أصغر، عدد أوراق أقل) لكن القوة الشرائية لن تتحسن تلقائياً من دون كبح التضخم واستقرار سعر الصرف حسب الخبراء الاقتصاديين الذي يرون أنه «إذا ارتبطت العملية بإصلاحات حقيقية في السياسة النقدية والقطاع المصرفي والإنتاجي، فإننا سنشهد تحسناً في قيمة الليرة، وارتفاعاً في القوة الشرائية، وتحسناً نسبياً في مستوى معيشة المواطنين».
إصدار عملة جديدة يمثل خطوة كبيرة على صعيد الإصلاح المالي عدا عن كونه يمثل تحرراً سياسياً مما تبقى من رموز النظام السابق
وفق حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية فإن:
– قرار حذف صفرين حسم بشكل نهائي، وأن هذه الخطوة لن تؤثر في القيمة الحقيقية لليرة، بل تهدف إلى تسهيل العمليات المحاسبية اليومية والتجارية.
– العملتان – القديمة والجديدة– ستتعايشان جنباً إلى جنب لمدة عام كامل، قبل أن تسحب الفئات القديمة تدريجياً من التداول. هذا التوازي في التداول يتيح للمؤسسات والشركات تحديث أنظمتها المحاسبية والمالية، كما يمنح المواطنين فترة للتأقلم مع الفئات الجديدة.
– العملة الجديدة تتمتع بمواصفات أمنية عالية المستوى للحماية من التزوير، وستخلو من صور أشخاص، حيث ستتضمن رموزاً تعبّر عن سوريا الجديدة.
– يستعد المصرف المركزي لإطلاق حملة توعوية موسعة لشرح آليات الاستبدال وضمان انتقال سلس.
– عملية استبدال العملة لا تعني إصدار أموال إضافية. العملية لا تتضمن زيادة في الكتلة النقدية، وإنما استبدال الأوراق الحالية بأخرى جديدة فقط. وبالتالي «لن نقوم بطباعة العملة عبر التمويل بالعجز كما فعل النظام البائد إنما عبر ضوابط اقتصادية تراعي مصالح المواطنين».
– وحول المخاوف من مخاطر التضخم اعتبر حصرية أن الخطوة لن تؤدي إلى تضخم إضافي في البلاد التي تعاني أصلاً من معدلات تضخم مرتفعة بعد سنوات من الحرب، موضحاً أن التضخم قد ينشأ لأسباب نفسية (ويمكن الحد منه بالتوعية) أو بسبب زيادة الكتلة النقدية، مضيفاً: «لن نزيد الكتلة النقدية، بل سنستبدل الموجودة حالياً».
وتشكل عملية تعافي الليرة السورية (تحسن سعر الصرف) من أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه سوريا بعد الإطاحة بالنظام السابق في 8 كانون الأول الماضي.