الحرية – نهلة أبوتك:
تتجلى اليوم آثار الفساد الإداري والمالي الذي تراكم لعقود، مع بدء الحكومة السورية خطوات رقابية جريئة لمواجهته وحماية المال العام.
خلال الأشهر الأخيرة، كثّفت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ووزارات الدولة جهودها في تتبّع ملفات الفساد وفتح التحقيقات في قطاعات حيوية، أبرزها النفط والغاز والتعليم والتموين والمصارف والثروات المعدنية، حيث تجاوزت الخسائر المسجّلة عشرات مليارات الليرات السورية.
هدر في قطاع الغاز وتجاوزات مالية ضخمة
ففي محافظة حمص، ووفقاً لتقرير لـ”الهيئة”، تسبب وزير نفط سابق بتعطيل مشروع لتأهيل منشأة حيوية، ما أدى إلى خسائر بلغت 4.654 ملايين دولار وهدر 46 مليون متر مكعب من الغاز بين عامي 2017 و2025، وهي كميات كان يمكن أن تغطي احتياجات مئات آلاف الأسر السورية.
وقد أُحيل الوزير الأسبق إلى القضاء مع الحجز الاحتياطي على أمواله وأموال زوجته، وفقاً لتقارير الهيئة.
وفي قطاعات أخرى، بلغت خسائر الطاقة نحو 25 مليار ليرة سورية، بينما سجّلت تجاوزات التموين في المخابز نحو 5.7 مليارات ليرة، وألحقت مخالفات عقود الثروات المعدنية أضراراً قاربت 148 مليار ليرة سورية.
تزوير واختلاسات إلكترونية ومخالفات مصرفية
أظهرت التحقيقات في قطاع التعليم وجود شهادات جامعية مزوّرة لأشخاص ذوي نفوذ، مع إحالة المتورطين للقضاء وحجز أموالهم بقيمة 1.448 مليار ليرة سورية.
وفي الخطوط الجوية السورية، سُجّلت اختلاسات إلكترونية تجاوزت 65 مليار ليرة سورية نتيجة التلاعب بالنظام المركزي للحجز، فيما تحولت جمعية استهلاكية في حلب إلى مركز تجاري ربحي غير قانوني لمدة عشر سنوات، بمبالغ غير مرحّلة تجاوزت 50 مليون ليرة سورية.
أما في القطاع المصرفي، فسُجّلت تجاوزات مالية واستثناءات غير مبررة في توزيع السيولة بلغت 10 مليارات ليرة سورية، واتخذت إجراءات لضمان وصول المعاشات إلى أصحابها بكرامة.
43 ملف فساد جديداً بقيمة 29 مليار ليرة
كما كشفت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات بالتعاون مع الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عن 43 ملف فساد جديداً في مؤسسات حكومية مختلفة، تجاوزت قيمة الاختلاسات فيها 29 مليار ليرة سورية.
وشملت الإجراءات إلغاء عقود غير قانونية، وتخفيض أسعار مواد فرضها متعهدون بأسعار مبالغ فيها، إلى جانب مراجعة مشاريع قيد التنفيذ، واسترداد قسم كبير من الأموال العامة إلى خزينة الدولة.
وأكدت الوزارة استمرارها في تعزيز آليات الرقابة، والتدقيق المالي لحماية المال العام، وضمان حقوق الدولة والمواطنين.
أوبان: جذور الفساد تعود إلى ترهل إداري مزمن امتد لعقود ما أدى إلى أزمة اقتصادية وأخلاقية شاملة
الإصلاح يبدأ بالإنسان المسؤول
يرى مدير معهد إدارة الأعمال في جامعة اللاذقية، الدكتور عبد الله أوبان، أن جذور الفساد الإداري تعود إلى ترهل إداري مزمن امتد لعقود، ما أدى إلى أزمة اقتصادية وأخلاقية شاملة.
ويؤكد أن أي قطاع يحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة بالتوازي مع المحاسبة الصارمة، والخطوات الحكومية الأخيرة تمثل مرحلة إصلاحية جريئة، لأن الإصلاح الحقيقي، كما قال: يبدأ من الإنسان المسؤول الذي يمتلك ثقافة مهنية وأخلاقية عالية.
صابوني: الكشف عن ملفات الفساد يمثل فرصة حقيقية لإعادة تأهيل المؤسسات العامة وتطبيق أنظمة رقابية ومحاسبية صارمة
الرقابة الصارمة أساس الإصلاح
من جهته يعتبر أستاذ القانون الدكتور جميل صابوني، أن الكشف عن هذه الملفات يمثل فرصة حقيقية لإعادة تأهيل المؤسسات العامة وتطبيق أنظمة رقابية ومحاسبية صارمة تضمن حماية المال العام واستعادة الثقة بمؤسسات الدولة.
ويشير إلى أن الرقابة السابقة والآنية واللاحقة، وفصل المهام وتوضيح الصلاحيات، تشكّل الأسس لإصلاح إداري شامل يعيد الانضباط إلى العمل المؤسسي ويعزز الأداء الاقتصادي الوطني.
آليات رقابية متطورة تلاحق الفساد خطوة بخطوة
لم تعد الرقابة في سوريا تقتصر على الملفات الورقية أو التحقيقات التقليدية، بل تحوّلت كما يوضح أوبان، إلى منظومة متكاملة من العمل الميداني والتدقيق الرقمي.
ففِرق الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش تنزل إلى الميدان، تراجع السجلات المالية والإدارية، وتستعين بلجان خبرة فنية لتقدير الأضرار والمخالفات.
كما تُفعِّل الهيئة أنظمة إلكترونية متخصصة للتدقيق الآني في المؤسسات التي تعتمد برامج مالية مركزية، لتتبع حركة الأموال والصفقات خطوة بخطوة.
وعندما تتضح معالم المخالفة، يُفرض الحجز الاحتياطي ويُحال المتورطون إلى القضاء لاسترداد المال العام وضمان المحاسبة الكاملة.
الإصلاح الإداري بوابة الاقتصاد المستدام
يؤكد خبراء الاقتصاد أن أي نهضة اقتصادية حقيقية لا يمكن أن تتحقق دون إصلاح إداري جذري يضمن الشفافية والمساءلة.
فمحاربة الفساد ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي عملية إعادة بناء للثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتحرير للموارد التي تُهدر في التجاوزات والمحسوبيات.
وعليه، فإن الخطوات الرقابية الجارية اليوم قد تمهّد لتحوّل اقتصادي مستدام، يعيد توزيع الموارد بعدالة ويعزز الاستثمار الوطني، لتصبح المحاسبة ثقافة مؤسسية لا مجرد حملة ظرفية.