كيف ننتقل من التوظيف الجامد إلى الإنتاجي القائم على القيمة؟

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية – مركزان الخليل:

قراءة متأنية في آليات العمل الإداري في الجهات العامة خلال السنوات السابقة، يدرك تماماً أنّ هناك أمراً ما يفوق سلطة العادة، أو الطريقة التي تدار بها مفاصل العمل، على اختلافها وتنوعها، فهناك يد خفية مؤثرة في تطبيق مفهوم الوظيفة، في ظل ظروف صعبة تعانيها، وحالة من الخلل “نتحسسه ونلمسه” بصورة مباشرة، في تأمين أبسط مقومات العمل الاداري والإنتاجي، وحتى ما يرتبط بشؤون الخدمات، نتيجة حرب استخدمت كل الأساليب لتدمير المكونات الاقتصادية والخدمية، وخروج معظمها من ميدان العمل العام باتجاه الخاص، والجانب الأخطر، هروبها إلى الخارج ووصولها الى أحضان الكثير من الدول التي أسهمت في افتعالها..!

ترهل مقصود

لكن المثير للاستغراب في رسم الإستراتيجيات للجهات العامة التي وضعتها الحكومات السابقة، هو تجاهل أمور هي في غاية الأهمية , وتشكل خطورة كبيرة في تجاهلها , تكمن في إعادة ترسيخ المفاهيم الوظيفية الوطنية، المبنية على الانتماء الكامل للوطن، وحب العامل للجهة العامة والخاصة المرتبط بها ولاسيما أنّ الأزمة السابقة أوجدت الكثير من الترهل الوظيفي ودخول مفاهيم لا تخدم العملية الإنتاجية والخدمية في القطاعات الحكومية وغيرها.
هذا بدوره يثير الكثير من التساؤلات في مقدمتها كيفية معالجة ما تقدم، على ضوء المستجدات الحالية، وخاصة على مستوى توجه الحكومة نحو اقتصاد السوق الحر، وهل هناك مفاهيم جديدة تتناسب مع ذلك..؟
والأهم معالجة هروب الخبرات والكفاءات الوطنية من مواقع العمل وخاصة ” القطاع العام” وبالتالي كيف السبيل لوقف هذا النزيف المدمر، والمستمر للخبرات والكفاءات الوطنية على ضوء توجهات العمل الاقتصادي الجديد..؟

الحسن: اعتماد سياسة الإدارة بالأهداف والتحفيز مقابل الأداء وتشجيع الاستثمار في الكفاءات عبر برامج “الاحتضان الوظيفي” و”العقود الذكية”.

مقاربة بالحل

خبير التنمية الادارية “وائل الحسن” قدم معالجة لهذه المشاكل، تبدو قريبة جداً من توجه الحكومة في معالجتها للمشكلات، ووقف نزيف هروب الخبرات من مواقع العمل العامة، وذلك من خلال لقاء” الحرية” معه، وموضحاً أن ما تفضلنا به يُلامس جوهر التحديات التي تواجه القطاع العام في سوريا، وغيرها من الدول التي تمر بتحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، ومعالجة هذا النزيف المستمر، للكفاءات يتطلب رؤية شاملة تمزج بين إصلاح المفاهيم الوظيفية، وتطوير البنية الإدارية، وتحفيز الانتماء الحقيقي، وتحديث الآليات بما يتماشى مع اقتصاد السوق الحر، وبالتالي هنا يمكن عرض بعض المحاور التي يمكن البناء عليها:

إعادة الاعتبار

وهنا جانب مهم ينبغي العمل على تنفيذه خلال المرحلة المقبلة، يكمن في إعادة الاعتبار للمفاهيم الوظيفية الوطنية، من خلال غرس الانتماء من جديد، عبر برامج تربوية وتأهيلية تربط أداء العامل بالهوية الوطنية والكرامة المهنية، وتقدير الكفاءة، لا الولاء الشخصي في التعيين والترقي، ما يعزز الشعور بالعدالة الوظيفية والانتماء للمؤسسة لا للأشخاص، إلى جانب إعادة صياغة الخطاب الحكومي، ليحترم العقل ويحتفي بالكفاءة، بدل التكرار للشعارات التي فقدت أثرها وفعاليتها.

هيكلة جديدة

والأمر الثاني الذي ينبغي العمل عليه، وبسرعة يكمن في إعادة هيكلة القطاع العام بما يتلاءم مع اقتصاد السوق، وذلك من خلال عمليات تحفيز الأداء، بمؤشرات موضوعية تشجع الابتكار والإنتاج، وتحول القطاع العام من عبء إلى محرك اقتصادي، وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص، وخلق بيئة عمل تنافسية داخل المؤسسات الحكومية نفسها، وتمكين القيادات الشابة، وتدوير المواقع الإدارية، لضخ دماء جديدة تعي تحديات العصر وتفكر خارج الصندوق.

بيئات ثلاث

وبالتالي المقصود هنا تحديث البيئة الإدارية والرقابية والذاتية وذلك من خلال العمل على رقمنة العمليات والخدمات، لتقليل البيروقراطية وزيادة الشفافية، مع ضرورة استحداث آليات مرنة للتقييم، والمساءلة بعيداً عن المنطق العقابي التقليدي، بل يعتمد على التحسين المستمر ، وتوفير بيئة عمل جاذبة على مستوى الحوافز النفسية والمادية، والاهتمام بالتطوير المهني المستمر.

مفاهيم جديدة

ويرى الخبير التنموي” الحسن” ضرورة إدخال مفاهيم جديدة تلائم اقتصاد السوق، وتطورات ما يحصل على أرض الواقع، والانتقال من المفهوم التوظيفي الجامد، إلى المفهوم الإنتاجي القائم على القيمة، واعتماد سياسات مثل الإدارة بالأهداف، والتحفيز مقابل الأداء ، وتشجيع الاستثمار في الكفاءات، عبر برامج “الاحتضان الوظيفي” و”العقود الذكية”، خاصة للكفاءات المتخصصة، لأن هروب الكفاءات الوطنية، خصوصاً من القطاع العام، له تبعات اقتصادية عميقة تتجاوز الخسارة المباشرة في المهارات، إلى خسارات أخرى تبدأ أولى نتائجها: بانخفاض جودة الخدمات والإنتاجية، وتقل فعالية المؤسسات الحكومية بسبب غياب الخبرات، ما يؤدي إلى تراجع جودة الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والنقل، إلى جانب ضعف الأداء التنفيذي، ما يعرقل مشاريع التنمية ويزيد من نسب الهدر المالي والإداري.

خسارة رأس المال

والخسارة الأخرى في رأي” الحسن” تكمن في خسارة رأس المال البشري، وخاصة أنّ الكفاءات تمثل استثماراً طويل الأمد في التعليم والتدريب، وهروبها يعني ضياع هذا الاستثمار من دون عائد، كما يصعب تعويض الكفاءات المغادرة بسبب الحاجة للسنوات والخبرات التراكمية، ما يؤدي إلى فجوات حرجة في القيادة والتخطيط.

البطالة المقنّعة

والمسألة لا تقف عند هذا الحد، بل هناك خسارة لا تقل خطورة عن عما سبق، وهذه تكمن في تفاقم معدلات البطالة المقنّعة، وبقاء موظفين غير مؤهلين في مواقع حرجة يخلق ما يسمى بـ”البطالة داخل الوظيفة”، حيث يشغل الفرد منصباً من دون أن يُنتج قيمة حقيقية، وهذا يؤدي إلى تشوّه هيكلي في سوق العمل، يزيد من الاعتماد على حلول قصيرة المدى بدلاً من إعادة تأهيل المؤسسات.

ضعف القدرة التنافسية

وهنا لا يمكن تجاوز خسارة مرتبطة بالمستوى الخارجي، تحدد هويتها في ضعف القدرة التنافسية على المستوى الدولي، وهنا يُصعب على الدولة اجتذاب استثمارات أجنبية، إذا كانت المؤسسات تفتقر لكفاءات تدير وتعالج المعاملات بفعالية، ويؤثر على سمعة الدولة في المؤشرات العالمية المتعلقة بجودة الحوكمة و الابتكار والتعليم، ما يحدّ من اندماجها في الاقتصاد العالمي.
وهذا يقودنا الى خسارة أخرى، تكمن في حدوث خلل في التوازن التنموي، حيث تتركز الكفاءات في القطاع الخاص، أو خارج البلاد، بينما تزداد المناطق الريفية والقطاعات الخدمية تهميشاً، الأمر الذي يؤدي إلى اختلالٍ في العدالة التنموية ويُفاقم الفجوة بين المركز والأطراف.

شعيب: سياسة “الإبعاد والإقصاء” القسرية الممارسة ضد الخبرات والكفاءات الوطنية أفرغت الوظيفة العامة من مفهومها

منافع مادية

الخبير الاقتصادي المهندس “جمال شعيب” يشاطر” الحسن”  في كثير من المحاور التي أثارها سابقاً، مضيفاً أن حدوث ذلك خلال السنوات الماضية، حيث كانت تمارس في وزارات الدولة ومؤسساتها، على نطاق واسع، من خلال اتباع سياسة الإبعاد والإقصاء، ليس القسري فحسب، بل مدروس ويمارس بخطوات يحاول الكثير من المنتفعين تقديم التبريرات والحجج لعمليات الإقصاء التي كانت تتم، وخير دليل مكاتب الوزارات والمؤسسات التي تعج بأهل الكفاءة والخبرة، في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات بأمس الحاجة لهم، لإنقاذ ما تبقى من هيبة الوظيفة العامة، وإدارة المؤسسات بما يعزز قوة الإنتاج والإدارة، والتي تحقق بدورها الحالة الاقتصادية العامة الجيدة، التي تعكس بصورة مباشرة  أولى خطواتها الايجابية على الواقع الاقتصادي، وزيادة المردودية الإنتاجية، وتحسين واقع العمالة المنتجة، و تعظيم الوظيفة العامة في مجالي الإنتاج والإدارة، بما تحمل من مفاهيم متطورة قادرة على التأقلم مع المستجدات المتلاحقة في عالم الإدارة والإنتاج.

Leave a Comment
آخر الأخبار