الحرية- جواد ديوب:
يغيبُ الجسدُ بتشكيلاته المُغوية عن لوحات الفنانة أسماء الفيومي، لكنه يحضرُ بصيغته “الطهرانية”، الحالمة، والأمومية. عيونٌ كبيرة ناعسة في وجوه مسترخية وساهمة في تأملاتها، لكنها عيون مغمضةٌ على أحزانها وقلقها، أو على ذعرٍ يكادُ ينطق!
عيونُ شخوصِها الشاهدةُ على ما جرى ليست أبداً كعيون ذاك المفزوع في لوحة “الصرخة” الشهيرة للنرويجي إدوارد مونش، بل هي عيونٌ حنونٌ ودافئة رغم الخوف الكامن، ورعب اللحظة المتفجّرة التي أبقتها مفتوحة على اتساعها في محاولةٍ يائسة لاستيعاب الكارثة!.
الشرخ، بل الشروخ التي باتت الملوِّنة العظيمة أسماء الفيومي (تولّد 1943) تتركها على معظم لوحاتها كآثار ندوب لا تمحى، أو جروح لا تندمل، هي السمة التي لا يمكن للمتلقّي أن يغفلها، وخاصة حين يسيل منها خيط أحمر كنايةً عن دم نازف لطّخ رؤاها وعبَثَ برقّتها!
لا ترسم الفيّومي من مبدأ “الفنان الملتزم”، فهي في تكوينها الروحي وأمومتها الفنيّة –إن صحّ الوصف – أبعدَ ما تكون عن خشونة الأيديولوجيا، ورعونة الخطابات، إذ إنها استدمجتْ في كيانها نبضَ عشتار وإنانا، وأطلقتْ صرختها كصيحةِ غزال يكاد يفتك به ذئبٌ بشري!.
قوّة اللطف!
وليستْ كلمات مثل “نزق” أو شغب أو مشاكسة بالكلمات الدقيقة لوصف أعمالها؛ سواء لوصف أسلوب الفيومي أو ألوانها أو مواضيع لوحاتها، ولكنَّ الشفافية واللطف الإنساني وتلك الرشاقة التي تتهادى على قماش اللوحات ليست أبداً من دون أثرٍ بالغٍ أو وقعٍ مؤثرٍ في روح المتلقّي، بل إنها بالضبط” قوّةُ الرِّقّة” ، كما لو أننا في قلب حكاية من الميثولوجيا اليونانية حين يَذكرُ أفلاطون شيئاً عن إلهةِ التيه/الأنثى الرقيقة التي تُسمّى “آتي”: لها قدمانِ مجنّحانِ بالكاد يلامسان الأرض”…وهكذا نشعر أمام لوحات أسماء فيومي!.
لكن قوة اللطف تلك تُذكرنا أيضاً بما قاله “نيتشه”: إنَّ ما يريدُهُ كلُّ جزء فينا هو المزيدُ من القوة”. كما يرى الفيلسوف الألماني أنه حتى “العرفانُ بالجميل” ما هو إلا “انتقامٌ طيّبٌ مهذّبٌ” يقوم به الإنسانُ ليستعيدَ “قوّتَه” وتموضعه ضمنَ شبكة العلاقات الاجتماعية!
بهذا المعنى أرى إلى ما تفعله الفنانة فيومي كما لو أنها تُعوِّضُ عن فقدان قوتها الجسمانية/البدنية في الواقع؛ بأعمالها الفنيّة المدهشة، والمميزة في قوّتها اللونية، وأسلوبها المتفرّد.
العزلة الأليفة!
وبقدر ما ترسم الفيومي شخوصَ لوحاتها وحيدين ووحيدات؛ إلا أن تلك الوِحدة إنما هي “العزلة الأليفة”، دفءُ الانوِجادِ في قلب ضبابِ التأملات الملونة حيناً، والرمادية حيناً آخر، المتماوجة، القلقة، المبقّعة بألوان الهمّ والكَمَد، أو تلك المنتشية بفرحٍ طفوليّ موشّىً بباقات زهور ووريقات شجر!.
وفي لوحاتها تعدد طبقات وسطوح، الأمام والخلف، بل هناك دائماً “شيءٌ ما” يختبئُ خلفَ دغلٍ من قصبٍ وتموّجاتِ أعشاب. هناك وداعةٌ نائمةٌ في حضن الطبيعة الحاضرة بتجريدٍ لونيّ وبقعٍ كأنها الخزامى أو باقات ورد، أو ظلالُ خيزران متطاولٍ يتهادى على ضفاف اللوحة، فيما لو دققنا جيداً ستتبدى هناك في العمق حميميةٌ مخبأةٌ كأنّ الفيومي تخافُ عليها من بشاعة الوقائع والحروب التي شُنت على البلدان العربية التي أثّرت في تجربة الفنانة منذ الـ67 وصولاً إلى الحاضر المؤلم، حيث تعتمد الفيومي على أسلوب “التهشير” وتجريحِ سطوح لوحاتها كأنما لتوحي لنا بما فعلته الحرب على أجسادنا وأرواحنا.
هارموني الألوان!
عجائنُ لونيّة كثيفة، طبقاتٌ من الصباغ اللوني الخصب، المتماوج، المتعرّج، المنبسط، الحيويّ، المتمازج مع خطوط سوداء قوية فاحمة، في هارموني موسيقيّ كأن تدفقات العاطفة الأنثوية انبثقت كلها دفعة واحدة على سطح اللوحة في احتدامِ مع هدوء “العقل” الذي يُراقبُ، يعاتب، يؤنّب، أو مع “فكرة” اللوحة أو مضمونها الذي تحاول الفيومي دائماً أن تقول عِبرَهُ “موقفها” من العالم حولها، ومن أشخاصٍ تكثّفوا في شخوصِ ما يُحيل إلى أولادها وزوجها (زوجها المخرج التلفزيوني الراحل غسان جبري)! فهي تعدُّ “أن اللوحة تُبنى على ثلاث ركائز: عمارةٌ، ولونٌ، ومضمون” لذلك لا تذهب في تجريداتها إلى الأقصى كما يفعل “التجريديون الكبار”، لكنها أيضاً لا “تُشخّصُ” حدّ الواقعية المطابِقة!
طفولة لا تشيخ!
الاحتضانُ مفردةٌ يمكن أن تَسمعَ صداها وتتنسّمَ عطرَهَا وأنتَ تتأمل لوحات الفيومي.. أنفاسٌ هادئة تخرج من اللوحة، أكفٌّ بأصابع حنون لكن واثقة، وقوية تحتضنُ الآخرَ، وتحميه وتخفف من رعبه وتوجساتِ المقبل. أصابعٌ وأيدٍ تُكمِلُ دائرةَ اللهفة الأمومية أو الاشتياقَ العاشقَ لذراعيِّ المحبوب/المحبوبة. أصابعُ تقول لنا إن اليدَ البشرية قادرةٌ على اختراع الأعاجيب بدءاً من “شطبات” قطع الفحم، وصولاً إلى ملامسة ألوان “الإكريليك” والزيت كما لو أنها ألعابُ الفنانة الفيومي وطفولتها التي لا تشيخ!