في صالة هيشون.. لوحات بولس سركو بين وهج النار وصفاء السماء

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي
في معرضه الذي يُقيمه هذه الأيام في صالة هيشون في اللاذقية؛ يبرز الفنان التشكيلي بولس سركو؛ من طائفة الفنانين الذين لا يملون في البحث عن إيجاد انعطافة جديدة في أسلوبه وشواغله الفنية كلّ حين، دون أن يُغادر قيماً جمالية بقي مخلصاً لها طول مسيرته التشكيلية.. وفي أحدث معارضه اليوم، يُقدّم للمتلقي انعطافة جديدة لاسيما في المضامين، وحكاية الكائن السوري الذي نوّع عليها بأكثر من لوحة تشكيلية، والتي يُمكن قراءتها من أكثر من زاوية..

الجسد كرمز والفراغ كصوت

في اللوحة الأولى، يقف كائنٌ ما على صخرةٍ، يرفع علماً أو رايةً نحو السماء المشتعلة بلونٍ ناريٍّ كثيف. يبدو المشهد بسيطاً في ظاهره، لكنه في العمق يختزن عالماً من الرموز والدلالات. فتميلُ الخطوط في هذه اللوحة إلى الحداثة التعبيرية: لا تفاصيل كثيرة، ولا ملامح تُحدِّد هوية الشخصية، إنما مجرد ظلٍّ إنسانيٍّ أزرق غامق يتحرّك وسط حقلٍ من اللهيب اللوني.. هنا، يختزل بولس سركو الجسد الإنساني إلى إشارة بصرية، يواجه العصف، لكنه في الوقت نفسه يمسك برايةٍ ترتفع في وجه الريح.. هذا التكوين يذكّرنا بمفهوم “الاختزال التعبيري” حيث تغدو البساطة الشكلية أداةً للكثافة الرمزية.
فالشخصية ليست فرداً بعينه، بل هي الإنسان الكوني الذي يقف في مواجهة المجهول، أو ربما الوطن الذي يرفع رايته وسط الخراب.
هنا يُحدث الفنان توازناً دقيقاً بين الحركة العمودية (الراية والخط الممتد صعوداً) والحركة الأفقية (الامتداد الناري في الخلفية)، وكأن الصراع قائم بين الثبات والصعود، بين الأرض والسماء، بين الدم والنور.
أما اللوحة الثانية، فتقدم تركيبة أكثر انفتاحاً على الفضاء. حيث نرى فيها طيوراً بيضاء وزرقاء تحلّق في مشهدٍ تجريدي، تتكامل فيه الأشكال المكسّرة مع الأجنحة المندفعة.
لا خطوط فاصلة ولا منظور تقليدياً؛ بل بناء تجريدي قائم على تداخل المساحات اللونية وتفاعل الضوء مع الظل. لا تُرسم الطيور هنا ككائنات واقعية بل كـ«طاقة حركية»، كتجسيدٍ للفكرة نفسها: الحرية.. بهذا المعنى، ننتقل من مشهد الإنسان المقاتل إلى مشهد الطائر المحلّق، وكأن الفنان أراد أن يقول إن كل معركةٍ في الأرض، هدفها النهائي أن تصل الروح إلى فضائها الأزرق.

النار والثلج في مواجهةٍ بصرية

يأتي اللون عند بولس سركو ليس كجوهر بنائي ومضمون فكري. في اللوحة الأولى، يحتلّ اللون البرتقالي المائل إلى الأحمر كامل الخلفية، في تدرجاتٍ نارية تكاد تحرق سطح اللوحة.
هذا اللون يوحي بالاشتعال، بالحرب، بالدم، أو ربما بشمسٍ غاربةٍ تودّع آخر الضوء. في المقابل، نجد شخصية الكائن الإنساني مصبوغةً باللون الأزرق المائل إلى الأخضر، وكأنها نقيض النار أو توازنها. يحملُ اللون الأزرق في هذا السياق دلالتين: البرودة أمام اللهيب، أي رمز الصمود والهدوء في وجه العنف. والروحانية أمام المادي، فبينما تحيطه النار، هو يظل ثابتاً، يرفع رايته نحو الأعلى، كأنه صلاة صامتة وسط الجحيم. تحت هذا التعارض بين الأحمر والأزرق، تنشأ دراما لونية تعبّر عن فلسفة الصراع بين النور والظلمة، بين الإيمان واليأس، بين الموت والبعث. وهذه الدراما لا تُقدَّم بأسلوبٍ مباشر أو تصويري، بل عبر توترٍ بصريٍّ محسوب يجعل اللون وحده ينطق بما يتجاوز الكلمات.
أما في اللوحة الثانية، فإننا أمام عالم لوني مغاير تماماً. السماء هنا زرقاء بدرجاتها، تميل أحياناً إلى الرمادي الفاتح أو الأبيض الثلجي، لتخلق إحساساً بالسكينة والصفاء. وتندمج الطيور البيضاء والزرقاء مع الخلفية، بحيث يصعب أحياناً التمييز بين الجسد والفراغ، في إحالةٍ فكرية إلى تلاشي الكائن في فضائه، إلى ذوبان الحدود بين الذات والعالم. بذلك تتحوّل اللوحة إلى نشيد بصري للحرية والسلام، يعاكس تماماً توتر اللوحة الأولى. وكأن الفنان يرسم مرحلتين من المسار الإنساني: الأولى نار الكفاح، والثانية صفاء التحرر. وفي كلتا الحالتين يبني انسجاماً بصريّاً مدهشاً، رغم اختلاف المزاج العام بين النار والثلج. ليبرهن أن الانسجام لا يعني التماثل، بل التناغم بين المتضادّات.

المضامين الفكرية

وإذا ما حاولنا القراءة في لوحة حامل البيرق، باعتبارها من جديد الفنان سركو في هذا المعرض؛ فسنخوض في حكاية بطولة الإنسان في مواجهة مصيره، في تمسكه بالرمز (العلم) رغم العاصفة.. حيث تُحيل الخلفية النارية إلى الألم الجماعي، إلى ذاكرة الحروب والاحتراقات التي مرّت بها الإنسانية، لكن بولس لا يرسم دماراً، بل يرسم إرادة النهوض.. فالجسد المائل إلى الأعلى يوحي بالحركة الصاعدة، والراية الممتدة نحو السماء هي إشارة إلى الإيمان بأن للمعاناة معنى، وأن للنار نهاية. في المقابل، تحمل اللوحة الثانية روحاً مختلفة؛ إنها قصيدة للسلام والتحليق..

حيث الطيور المتناثرة لا تُرى كفوضى، بل كحركة جماعية منسجمة تتجه نحو الأفق، إنها لحظة ما بعد الحرب، لحظة استعادة التناغم بين الكائن والعالم.. وما يلفت الانتباه هو غياب أي مركز واضح للتركيب، فاللوحة تنفتح في كل الاتجاهات، كما لو أنها تقول: الحرية لا تعرف نقطة نهاية، وكأن لوحتيه فصلان من روايةٍ واحدة عنوانها “رحلة الروح”.

البحث عن الجوهر

من الناحية التقنية، يعتمد الفنان على تدرّجات لونية شفافة، وعلى مناطق ملساء ذات طبقات متراكبة، ما يمنح السطح بُعداً بصرياً متحوّلاً بحسب زاوية النظر، فلا أثر لضربات فرشاة خشنة أو لمادة كثيفة؛ بل نرى اقتصاداً في الوسائل يقابله غنى في النتائج. وهذا جزء من فلسفة سركو في التحرر من الضجيج البصري لصالح صفاء الفكرة.
كما يلحظ المتأمل اهتمامه بالبنية الهندسية الخفية داخل العمل؛ فالخط العمودي في اللوحة الأولى يقسمها إلى قسمين متقابلين (النار/ الإنسان)، بينما توزع الخطوط القطرية في لوحة الطيور طاقتها عبر زوايا متعددة، ما يمنحها إيقاعاً موسيقياً شبيهاً بحركة النوتات في مقطوعة هادئة.

البعد الرمزي والفلسفي

أكثر ما يشتغل سركو على الرموز بوصفها مفاتيح تأملية. فـ«الراية» في اللوحة الأولى رمز للهوية، للإيمان، وربما للحلم. أما «الطيور» في اللوحة الثانية، فهي تجسيد للروح التي تتحرر من ثقل الجسد بعد تجربة النار الأولى. وبين الرمزين، تتشكل علاقة جدلية تشبه دورة الحياة نفسها: من الاحتراق إلى التحليق، من الألم إلى الصفاء، من الموت الرمزي إلى الولادة الثانية. هذا التتابع الرمزي يجعل تجربة بولس سركو قريبة من التصوف البصري، حيث يتحوّل اللون إلى وسيلةٍ للتطهّر، والرسم إلى فعل خلاصٍ داخلي.

بين الواقع والرؤيا

في لوحة ثالثة (الغروب والجبال)، يمكن النظر إليها كامتدادٍ بصريٍّ لفلسفة الفنان. إنها الطبيعة في لحظة الغروب، حيث تلتقي زرقة السماء بحرارة الأفق المشتعل، وتكاد تكون النسخة الواقعية من لوحتيه السابقتين. فالغروب يجمع بين النور والظلمة، بين نهاية النهار وبداية السكون، كما تجمع لوحاته بين النقيضين.
هذا التوازي يوحي بأن الفنان يستلهم رؤيته من مراقبة التحوّلات الطبيعية— من علاقة الضوء بالمادة، ومن لعبة التناقض بين الصفاء والعنف. ربما لهذا السبب، تبدو أعماله وكأنها تستحضر روح المنظر الطبيعي من دون أن تصوره حرفياً، فهي تلتقط الجوهر العاطفي للطبيعة أكثر من شكلها الخارجي.

Leave a Comment
آخر الأخبار