الحرية – محمد زكريا:
مع كل صيف، تتكرر المأساة ذاتها، نيران تلتهم محاصيلنا، تدمّر غاباتنا، وتترك وراءها رماداً وأرضاً يابسة ميتة، ومع كل خبر عاجل عن حريق، يتبادر إلى الذهن سؤال لا يُطرح بما يكفي: ” ماذا بعد؟ كيف نعيد تأهيل الأرض بعد الحريق؟ وهل يمكن أن تعود كما كانت؟”
مفرزات الحرائق
وللأسف الشديد فإن مفرزات الحرائق يتم التعامل معها وفق منهج تقليدي متبع منذ زمن بعيد، في حين الحقيقة العلمية مغيبة في هذا الجانب ولا يؤخذ بها، وبالتالي فإن على الجهات المعنية من وزارتي الزراعة والإدارة المحلية والبيئة، وضع خطة تأهيل مبسطة للفلاح السوري، تتضمن هذه الخطة كيفية التعامل مع الأرض المحروقة وكيفية البدء في تأهيل الأرض الزراعية بعد الحريق.
الحقيقة العلمية
الخبيرة الزراعية الدكتورة انتصار الجباوي أوضحت أن الأرض بعد الحريق تبدو كأنها صارت رماداً صالحاً للزراعة، لكن الحقيقة العلمية مختلفة، حيث تؤثر الحرائق على التربة من خلال احتراق المادة العضوية الذي يؤدي إلى فقدان خصوبة التربة، وإلى تصلّب السطح، ما يمنع نفاذ الماء ويزيد خطر التعرية، كما تؤثر الحرائق بالتربة في اختلال التوازن البيولوجي، وقتل الكائنات الدقيقة المفيدة، وتؤدي إلى حموضة زائدة أو بقايا سامة بفعل الرماد المحترق.
ليست ميتة
وبينت الجباوي لصحيفتنا الحرية الخطة التي يمكن أن نبدأ بها تأهيل الأرض الزراعية بعد الحريق، ولاسيما أن الأرض المحروقة ليست ميتة، لكنها بحاجة إلى خطة تأهيل، تتضمن تنظيف الرماد وبقايا الحريق يدوياً أو آلياً دون حرث عميق، والانتظار حتى أول مطر خريفي قبل اتخاذ قرارات الزراعة، وإجراء تحليل أولي للتربة (حموضة، ملوحة، مادة عضوية) لتحديد الاحتياجات، والبدء بتطبيق الزراعة الذكية في هذه الأرض من خلال زراعة محاصيل تغطية مؤقتة مثل الشعير أو العدس لتحسين التربة، و إضافة السماد العضوي المتحلّل لاستعادة التوازن الطبيعي، مع تجنّب التسميد الكيميائي المكثف في السنة الأولى.
وبخصوص الأراضي الحراجية والغابات، أشارت الجباوي إلى أن هذه الأرض لا تزرع فوراً، حيث تتم مراقبة ظهور التجدد الطبيعي (نمو شتلات برية) لمدة عام كامل، وبالتالي إذا لم يحصل ذلك، نزرع أنواعاً محلية مقاومة للجفاف مثل: السنديان، الزعرور، الخرنوب، البطم، كما تتم حماية من الرعي والحرائق الجديدة.
منع تكرار الكارثة
ونوهت الجباوي بأن الآلية التي تمنع تكرار الكارثة، تتمثل في إنشاء خطوط نار عازلة حول الأراضي الزراعية، مع تنظيم حملات توعية قروية حول السلوكيات المسببة للحرائق، إضافة إلى تشكيل فرق مراقبة أهلية بالتعاون مع البلديات والمنظمات المحلية، كما أنه يمكن إعادة استخدام الرماد بنسب علمية، كإضافة لتحسين بعض أنواع التربة، بإشراف مختصين.
دعوة مفتوحة
وأضافت الجباوي: في ضوء التحديات المتزايدة بفعل الحرائق الصيفية، فإننا نوجه دعوة صريحة إلى وزارة الزراعة ومديرياتها في المحافظات كافة، وكذلك إلى الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، لإطلاق برنامج وطني لتأهيل الأراضي المتضررة بالحرائق، يشمل إعداد أدلة إرشادية مبسطة للفلاحين حول خطوات التأهيل بعد الحريق، مع تنفيذ دورات ميدانية في القرى المتضررة بإشراف مرشدين وفنيين مختصين، وتخصيص خطة عاجلة لدعم الفلاحين المتضررين بالبذار والسماد العضوي، وتعزيز دور البحث العلمي في تطوير بروتوكولات تأهيل بيئي فعالة ومناسبة للمناخ السوري. منوهة بأنه لا يمكن أن نواجه خطر الحرائق الموسمية فقط بالإطفاء، بل بالاستعداد، والوقاية، والتأهيل الذكي.
خلاصة
الحريق ليس نهاية الأرض، بل اختبار لإرادتنا في إحيائها، وإعادة التأهيل لا تحتاج معجزة، بل تحتاج إلى علم، وصبر، وتعاون بين الفلاح، والإرشاد، والمؤسسات، فلتكن حرائق هذا الصيف بداية وعي جديد: زراعة ما بعد الحريق، زراعة حياة.