الحرية – مها سلطان:
بعد انحسار مستمر منذ نهاية آذار الماضي بفعل التطورات المتلاحقة، عادت العلاقات السورية – الروسية إلى دائرة الضوء مع الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوزير الخارجية أسعد الشيباني لزيارة موسكو، وذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أمس الثلاثاء في موسكو، وفي حال تحققت الزيارة فستكون الأولى لمسؤول سوري رفيع منذ الإطاحة بالنظام السابق.
لافروف لم يُعلن أي موعد محدد للزيارة، ما يعني أن الوقت مفتوح لتتم في أي وقت، أو لنقل إن لافروف ترك للجانب السوري الباب مفتوحاً لتحديد الموعد وفق مقتضياته وأولوياته.
رفع العقوبات الغربية عن سوريا أفقد موسكو هامش المناورة والتحرك… ما العمل وعلى ماذا تعوّل روسيا في طلب زيارة الشيباني؟
انحسار التركيز على العلاقات السورية- الروسية لا يعني بالضرورة أن الاتصالات كانت مقطوعة، أو أن قنوات الاتصال لا تعمل بدليل المؤتمر الصحفي للافروف وفيدان، وما جاء فيه من نقاط متعلقة بسوريا والتي كانت مدار بحث بين الجانبين. كانت هناك تصريحات متبادلة على العمل والتعاون معاً لضمان الاستقرار ووحدة الأراضي السورية وتحقيق الازدهار للشعب السوري.
ومن دعوة الشيباني لزيارة موسكو يبدو أن روسيا تخطط لاستعادة مسار الاتصالات رفيعة المستوى مع القيادة السورية الجديدة والذي كان قد بدأ نهاية كانون الثاني الماضي مع زيارة وفد رسمي روسي برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف لدمشق ولقائه الرئيس أحمد الشرع، وبعد اللقاء قال بوغدانوف إنه أجرى «محادثات بناءة وإيجابية» ومن نتائجها أنها نجحت في «إذابة الجليد» وأطلقت مسار التفاوض حول ترتيب جديد للعلاقة بين روسيا وسوريا.
ثم كانت المحطة الأهم والمتمثلة بالرسالة التي بعثها الرئيس فلاديمير بوتين إلى الشرع وأعلن فيها استعداد بلاده لتطوير «تعاون جدي وعملي» مع سوريا في كل المجالات، وقال حينها الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف إن الرسالة حملت تأييداً لجهود القيادة السورية الموجهة نحو «تحقيق الاستقرار السريع للوضع في البلاد بما يخدم مصالح ضمان سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها».
ورغم أن روسيا/ بوتين كانت أحد أبرز داعِمَين لنظام بشار الأسد «إلى جانب إيران» إلا أن الرئيس الشرع اعتمد منذ البداية نبرة هادئة/ تصالحية إلى حد ما، مبدياً رغبته في بناء علاقات جيدة مع موسكو، وبما يليق بتاريخها ومكانتها.
مع ذلك فإن العلاقات السورية- الروسية لم تنتظم بعد في مسارات واضحة، وفي الشهرين الماضيين بدا وكأنها دخلت في حالة جمود، رغم أن التسريبات تشير على الدوام إلى أن هناك ترتيبات بعيدة عن الأضواء وخصوصاً فيما يتعلق بالوجود الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس، وأن مباحثات هاكان فيدان مع لافروف في موسكو ركزت على هذه النقطة، ويُقال إن روسيا بدأت بـ«نقل قاعدة حميميم إلى مطار القامشلي شرقي الفرات» وإن القوات الروسية تنقل معداتها وجنودها منذ أيام إلى هناك.
إذا كانت هذه التسريبات صحيحة فإن العلاقات السورية- الروسية دخلت طوراً جديداً، ولكنه ليس في مصلحة روسيا بشكل عام، في حال المقارنة بين الوجود على الواجهة الساحلية وبين الوجود في منطقة داخلية، وإذا ما أخذنا أن الوجود الروسي الجديد سيكون ضمن مناطق الأكراد (قوات قسد) فهذا يعني أن العلاقات الروسية- التركية دخلت بدورها في طور جديد، وما يجري من مباحثات تركية روسية هو لترتيب هذا الوجود من جهة، وتحسين علاقة روسيا مع النظام السوري الجديد (طبعاً نحن هنا نتحدث عن الشق المتعلق بسوريا من مؤتمر لافروف/ هاكان الذي تناول أيضاً قضايا أخرى خصوصاً أوكرانيا وغزة).
ويبدو أن روسيا في هذه الفترة تركن للنصائح التركية بخصوص سوريا بدليل تصريحات لافروف التي قال فيها: «بناءً على الاقتراح الكريم من صديقي هاكان فيدان، عقدنا لقاءً في أنطاليا في نيسان الماضي بحضور الشيباني، وهو الآن لديه دعوة لزيارة روسيا».
ورغم أن لافروف أشاد مع فيدان برفع العقوبات عن سوريا، مؤكداً أن لرفع العقوبات أهمية خاصة، إلا أن هذا التصريح لا يبدو مُعبراً بصورة دقيقة عن قلق روسيا التي ترى أن رفع العقوبات قد يقود في نهاية المطاف إلى خروجها من المعادلة الاقتصادية في سوريا، بعد خروجها من المعادلة العسكرية، خصوصاً إذا ما صح نقل قاعدتها من حميميم إلى القامشلي، إلا إذا كان هذا الانتقال يأتي ضمن ترتيبات غير مُعلنه باتجاه دور جديد لروسيا في سوريا (والمنطقة عموماً).
لنذكّر هنا بما أوردته صحيفة «وول ستريت جورنال الأميركية» مطلع آذار الماضي عن أن روسيا تسعى لإبرام صفقة مع القيادة السورية الجديدة لإبقاء قواعدها العسكرية مقابل دعم اقتصادي واستثمارات، وقالت الصحيفة الأميركية نقلاً عن مسؤولين أوروبيين وسوريين، إنه من ضمن المباحثات حينها أن تدفع روسيا مليارات الدولارات نقداً إلى جانب استثمارات في حقول الغاز والموانئ السورية.
لكن كل شيء انقلب جذرياً مع رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سوريا، وهو ما لم تكن تتوقعه روسيا «أقله بهذه السرعة» التي بذلت جهوداً كبيرة لترتيب العلاقة مع دمشق قبل أن يحدث ذلك، ولكن بعد حدوثه فإن روسيا فقدت هامش المناورة والتحرك وباتت أكثر حاجة لقنوات اتصال، وبعبارة أدق قنوات وساطة، وليس هناك من مجال أمامها سوى تركيا التي نصحت روسيا بدعوة الشيباني لزيارتها.
سوريا لم تعلق على الدعوة، وقد تفعل بين يوم وآخر، وكلا الأمرين واردين، أن تتم تلبية الدعوة أو لا تتم، لكن الاحتمالات الأوسع هي باتجاه تلبية الدعوة. صحيح أن هناك انفتاحاً أميركياً-غربياً بالكامل على سوريا بعد رفع العقوبات، وهناك الكثير جداً من عروض الاستثمار والاتفاقيات المحتملة (وبعضها تم توقيعه بالفعل) إلا أن القيادة السورية ربما ترى في روسيا ما يمكن أن يفيدها في هذا السياق نفسه، لكنها لا تفصح عن الكثير وتترك كل أمر وفعل إلى وقته المناسب وتعلنه بالتوقيت المناسب.. كل شيء محسوب، وهذا ما يعزز الثقة والتفاؤل لدى السوريين.