متلازمة “الأنا”… وهم التميز والفرادة

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – لبنى شاكر:

تحتل “أنا” موقعها في بداية الكلام، وتتباهى بكونها “ضمير رفع منفصلاً في محل رفع مبتدأ”، وعلى هذا نادراً ما نلتقي بها في نهاية جملة ما، فكيف حين تأتي “مُفخّمة” على مبدأ “أنا من ابتكر الفن الفلاني في سوريا”، و”أنا من أسس النظرية المشهورة”، و”أنا الأفضل والأول ووو …”، والحقيقة أنّ هذه المتلازمة استباحت تصريحات العديد من الفنانين والأدباء والإعلاميين، وما باتوا يُعرفون بـ “المُؤثرين”، وكل من أتاحت له طبيعة عمله، عدداً من المتابعين والمُهتمين، وهؤلاء بطبيعة الحال ليسوا أكثر من مادحين ومصفقين، يدورون في فلك الشخصية ولا يعنيهم نتاجها فعليّاً، وإلا لفكروا قليلاً قبل كتابة تعليقات على مبدأ “خُرافي وصاعق ومُبهر”، وأعادوا النظر في كمّ المجاملات الصادر عنهم مجاناً “للقامات” التي يصفونها بالمُذهلة والمُبتكِرة وصاحبة الفضل على أجيال من السابقين واللاحقين!.

يستطيع صاحب “الضمير المنفصل” أن ينشر نفسه كظاهرة ويصنع له جمهوراً من الإعجابات والتعليقات

ولا ينتهي فعل “الأنا” هنا، فعدا عن سهولة الادعاء بالتميّز والفرادة بغض النظر عن القيمة الحقيقية لأي عمل، يصلح القول إنّ الدافع لأي جهد أو بحث عند أصحاب الضمائر المنفصلة، لا يتجاوز كونه بحثاً عن أمجاد شخصية، ومشاعر بالتفوق والاستعلاء على أفكار الآخرين، فينسبون لذواتهم إنجازات وهمية، يرونها متفوقة وخارجة عن أي سياق أو تطور، ويتنكرون لكل من سبقهم في الزمن والجهد، ويتناسون أيضاً أبناء جيلهم، ممن أهملهم الإعلام أو فضلوا النأي بأنفسهم عن أساليب لفت النظر واستجداء الاهتمام.
والمفارقة عند مرضى “الأنا”، احتياجهم الدائم لهالة من المحيطين والتابعين، رغم إعلانهم المستمر أحقيتهم الطبيعية في الفوز، وإن كانت عوالم الأدب والفنون لا تحتمل فكرة الفائز الأول والثاني والثالث، فلكل تجربة تقييمها وفقاً لموقعها وأثرها، وهذا لا يتأتى من عبارات الإعجاب المكررة، ولا حتى من الثناءات والامتيازات الفارغة الممنوحة في صفحات الشعر والقصة كالسكاكر التي يُخبئها الكبار في جيوبهم للصغار. وإن كان الأكثر إيلاماً أن يتحول الفن والأدب والفكر إلى مجرد ذرائع للظهور، ويصبح الهمّ الأوّل هو “التسويق” للشخص قبل تسويق العمل،  ليُختزل الإبداع في عدد المشاهدات والمشاركات.

بوالين الإعلام والعصر الرقمي..

أمّا ما نعرفه جميعاً، فهو الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام، ولا سيما التلفزيون، في نفخ بوالين “الأنا” في الإضاءة على من لا يستحق، بداعي الاستسهال أو عدم توافر البديل، تاركة للـ “السوشل ميديا” توجيهها، في الترويج للفارغين ومدّعي الفهم، متناسية أن الجمهور الإلكتروني ربما يكون حصيلة الأصدقاء وأبناء العمات والخالات، ثم إن الفرق كبير بين ما ينشره أي إنسان عن نفسه، وما تنشره وسائل الإعلام.
وتستمر “الأنا” في تضخمها، مدفوعةً أيضاً بآليات العصر الرقمي، الذي حوّل الجميع إلى منصات متنقلة للترويج الذاتي. بحيث يستطيع صاحب “الضمير المنفصل” أن ينشر نفسه كظاهرة، ويصنع له جمهوراً من الإعجابات والتعليقات التي تغذّي وهم التميز. وكأن الصمت والجدية في العمل لم يعودا من صفات “المبدع العصري”، الذي يجب أن يكون دائم الظهور والحديث عن مشاريعه “الثورية”، حتى لو كانت فارغة أو مكررة.

يُشبه المشهد العام حولنا كرنفالاً من الأصوات المتنافسة على حجم “الأنا” لا على عمق الإنجاز

سطوة الأتباع الافتراضيين..

وعلى هذا المنوال، غاب النقد لِصالح المجاملة، خوفاً من سطوة “الأنا” المسلحة بأتباعها الافتراضيين، واستحال الحوار إلى مجرد تبادل للإطراءات، ومن ثم لا مكان لمحاولات التقويم أو النقد البنّاء تحت شتائم “الحاسدين” و”المتخلفين”. في النهاية، يشبه المشهد العام حولنا كرنفالاً من الأصوات المتنافسة على حجم “الأنا” لا على عمق الإنجاز، حيث الجميع “عباقرة” و”روّاد” و”مُلهِمون” في عيون أتباعهم. وتغيب الحقيقة البسيطة في أن الإبداع الحقيقي بعيد عن البهرجة والاستعراض، وميّال للتواضع والصمت أمام الأفكار والآخرين.

Leave a Comment
آخر الأخبار