محمد عبد الكريم.. العازف الذي جعلت منه الموسيقى قامة عالية تحكي عنها الأجيال

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الراعي: 

لا يُختصر محمد عبد الكريم بين (1911 و1989) سنتي ميلاده ووفاته، بل بما فاض بينهما ولايزال مستمراً بما منحته الحياة إنسانياً وإبداعياً؛ ذلك أن الموسيقى، هي من ستضيفُ إلى تلك العقود حياةً جمالية آخرى، وتكون كنبتة جلجامش التي فشل الأخير في الاحتفاظ بها…

من وسط حمص
ففي وسط سوريّا، وفي وسط حمص على وجه التحديد، في شارعٍ شعبي يُطلق عليه (الخضر) سيولد لموسيقي كان يُعمّر أفراح المدينة بالعزف على آلتي العود والبزق يُدعى (علي مرعي)، طفلاً سيكون صغير الحجم بشكلٍ لافت، ذلك الملمح الذي سيبقى معه حتى وفاته، لاسيما بعد أن تعرّض خلال طفولته لحادثٍ أثّرَ على عموده الفقري، والذي أوقف نمو جسمه عند طولٍ لم يتجاوز (الثمانية والتسعين سنتمتراً).. ذلك الطفل الذي سيغضُّ الطرفَ عن آلة العود إلا قليلاً، غير أنه سيولع ب(البزق)، ربما لأنه وجده مُتناسباً مع حجمه أكثر..
ويُحكى في سيرته الذاتية إن (عماشة) والدته كان ذات صوتٍ حسنٍ أيضاً، ومن ثمّ كانت (فرقة العائلة) التي تشكلت من والده ووالدته وشقيقيه سليم ومحمد؛ المناخ الأول الذي تشمم عطر نسائمه الموسيقية فيه، والتي ذهبت في اتجاهين: العزف، والتلحين، والبعض يُصنف شواغله الإبداعية ضمن أربعة اتجاهات: تمثّل الأول في ابتكاره مقاماً موسيقياً جديداً أطلق عليه اسم (مريوما).. والثاني بإجرائه تعديلاً على آلة البزق فزاد عدد حبساته على الزند من ( 17 حبسة إلى 38 حبسة)، كما أضاف إليه وترين مزدوجين، ما زاد طاقة هذه الآلة..

مقام مريوما
فيما تمثّل الاتجاه الثالث في التأليف الموسيقي، حيث أبدع السماعيات واللونغايات في مقامات موسيقية مختلفة، ووضع مقطوعاتٍ موسيقية زاد عددها عن عشرين مقطوعة.. وتمثّل الاتجاه الرابع بألحانه لما يزيد على مئة أغنية.. حيث لم تمضِ السنة السابعة عشرة من عمره حتى كانت أخبار موهبته تعرفها حمص كلها.. وهنا سيتماهى الموسيقي مع بزقه، بحيث يُمسي الأول بحجم “أميرٍ” على الثاني.. الأمير أو (أمير البزق)، ذلك اللقب الذي جعل من الحجم الصغير قامةً سامقة بحجم موسيقى لاتزال ألحانها تمنحُ مستميعها الجماليات الروحية الكاملة..
الحجم الصغير، لم يكن المحنة الوحيدة لهذا الموسيقي، الذي سيتجازوه بإمارة الموسيقى، بل حتى في أصوله التي تُرجّح أنها من أصولٍ غجرية، غير أن اليقين الكامل أن موسيقى هذا الأمير هي بمصاف العالمية التي أغنته عن الطول الفاخر والوسامة الجاذبة، وعمّا يُسمى بالنسب النبيل، حيث كان البزق أمه وأبوه وكلَّ قامته العالية..

أمير البزق
فمنذ البداية، كانت الموسيقى في متناول روحه، من خلال أستاذه الأول كما كان يُردد على الدوام، ويقصد والده، الذي كان يُرافقه لإعمار المناسبات الحمصية بالأفراح، وبعد وفاة والده تولى أخوه الأكبر سليم رعايته، فأدخله المدرسة الابتدائية، وبعد ذلك انتسب إلى نادٍ ذائع الصيت حينها – وربما لايزال- وهو “نادي الميماس” عازفاً ضمن فرقته الموسيقية..
ولم يطل المقام مع الفتي الصغير في مدينة العاصي التي ضاقت عن طموحاته الإبداعية، فقد انتقل مع والدته إلى دمشق ولم يتجاوز عمره السنوات العشر، هنا في العاصمة سيجد محمد عبد الكريم مع (كركوزاتي) مُغرماً ب”خيال الظل”، وهو (أبو شاكر) الذي كان يُقدّم عروضه في مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي، حيث كان يُرفق عروض أبي شاكر بما يُشبه الموسيقا التصويرية عزفاً حياً على آلة البزق.. ومن خلال هذه العروض، التي كان يحضرها سياسيٌ سوري معروف، سبق أن منح اسمه كنيةً ذات حينٍ لفنانٍ قادمٍ من حلب، ولصق به طول الوقت، وهو (صباح فخري)، هذا السياسي سيتعرف عليه (عبد الكريم مرعي)، اسمه قبل أن يصبح محمد عبد الكريم، والذي كان هو فخري البارودي، الذي عُرف عنه شغفه بالفن والثقافة، وقد ساهم في شهرته، وساعده في الانضمام إلى أشهر فرق العاصمة الموسيقية، ومن ثم منحه اسمه (محمد عبد الكريم) الذي اشتهر به، وأتاح له النهل من علوم الموسيقاطى ودراستها بكلِّ شغف..

وفي دمشق
ولم يكتفِ محمد عبد الكريم بعاصمة الأمويين، فثمة حكاية تقول إنه سافر إلى عاصمة العباسيين بغداد، ويُحكى إن ملك العراق حينها – الملك فيصل بن الحسين- استمع إلى عزفه، وأعجب به أيّما إعجاب، ويُحكى أيضاً أن الملك ولشدّة إعجابه به هو من أطلق عليه صفة (أمير البزق) عندما كان يستمع له في حفلةٍ باريسية، والذي أصدر لأجل ذلك “فرماناً” ملكياً لتصير التسمية ملكية رسمياً، وبهذه الإمارة التي بقيت تسبق اسمه إلى اليوم، جاب محمد عبد الكريم مختلف عواصم العالم.. مثل: بيروت التي سيتعرف فيها على أشهر عازفي البزق حينها محيي الدين بعيون، والذي عندما سمعه – كما تقول الحكاية- قرر اعتزال العزف على البزق، لأنه رأى مستقبل هذه الآلة سيزهر على أصابع هذا القادم من الشام.

وفي القاهرة يُحكى عن عبارة إعجاب ينسبها البعض لمحمد عبد الوهاب حين استمع إليه لأول مرة، إنه قال:” إذا كانت الموسيقى الغربية تفتخر ب”باغانيني” كأشهر عازف للكمان، فإن الموسيقى الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف للبزق”.. ثم زار بعد ذلك كلاًّ من القدس، باريس، لندن، وعدداً من المدن الألمانية والإيطالية.

بوابة حلب
لكن قبل أن يقوم بجولاته العالمية، كان عليه أن يعبر من عتبة بيته وذلك من بوابتين، واحدة سورية، وهي زيارته لحلب بلد “السميعة” كما هو مُتعارفٌ عليها، وفي هذه العتبة يبدأ أولى مشاريعه اللحنية، ففيها، سيُقدّم لحن أغنيته (ليه الدلال وأنت حبيبي) وتجرأ وغناها بصوته، وخلال هذه الزيارة لعاصمة الحمدانيين، سيتعرف على الموسيقي كميل شامبير الذي سيفتح له العتبة الثانية العربية التي تُشكّل ندّاً إبداعياً لحلب، وذلك عندما دعاه إلى عاصمة المصريين – القاهرة.. وبعد أن عبر هاتين العتبتين، كان أن فُتحت له مختلف البوابات العالمية التي أشرنا لها سابقاً، ففي القاهرة على سبيل المثال التي زارها سنة 1925، وبقي برفقة أهم موسيقييها لمدة قاربت السنتين، تعرّف خلالها على سدنة الموسيقى في مصر: محمد القصبجي، زكريا أحمد، داوود حسني، ومحمد عبد الوهاب..
وفي القاهرة أيضاً سيحيي عشرات الحفلات الموسيقية، وهو الأمر الذي سيُلفت انتباه الألماني”ليتو باروخ”، وكيل شركة أوديون الألمانية للأسطوانات، والذي سيدعوه للسفر إلى ألمانيا وهناك سجل خمس أسطوانات موسيقية.

شارات لإذاعات
وإذا كانت إذاعة دمشق إلى اليوم تحتفظ بشارة البدء بأعمالها من تأليف محمد عبد الكريم، غير أنه كان لافتاً، إن أكثر من إذاعة في ذلك الزمان، كانت شاراتها الموسيقية من إبداعه.. منها على سبيل المثال عندما دُعي إلى فلسطين سنة 1936 لحضور افتتاح إذاعة القدس، وهناك عمل عازفاً ضمن فرقتها الموسيقية، وبعد ذلك تولى رئاستها، وعند افتتاح إذاعة الشرق الأدنى البريطانية في يافا – فلسطين، حضر افتتاحها ووضع لها شارتها الموسيقية أيضاً، كما شكّل فرقتها الموسيقية وتولى رئاستها كذلك.. وفيما بعد كانت إذاعة دمشق بيته الصباحي، منذ افتتاحها، حيث كان يقوم بعزف شارتها كلّ صباح، وهو ما أوحى للمخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد، لتضمين هذا الفعل الموسيقي الصباحي في أحد أفلامه..
٠٠وفي دمشق التي سيختمُ فيها الرحلة التي منحته له الحياة، سيكتفي بالحيز الضيق منها، وحيداً في غرفةٍ متواضعة، في منزل آل “الموره لي” في منطقة (عين الكرش)، حيث سيقضي فيها بقية عمره، وفيها سيُصاب بالمرض العضال، ويُنقل في ليلةٍ موحشة إلى مشفى الهلال الأحمر، ليلفظ فيها أنفاسه الأخيرة يوم الاثنين في الثلاثين من كانون الثاني سنة 1989.

Leave a Comment
آخر الأخبار