الشاعر محمد كاظم في زارني الشعر .. هسيس إنساني مؤنس

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- أحمد عساف:

يشيد الشاعر محمد كاظم في ديوانه زارني الشعر، عالماً شعرياً أقل ما يقال عنه أنه عالم شعري خاص لا يشبه أحداً سواه. للشاعر محمد كاظم أسلوب كتابي مسكون بوجع الكتابة ووحشة الأمكنة، وفتنة التوغل في أرخبيلات الحلم بقصيدة دافئة تخترق أسوار الحياة، وتمضي طويلاً في دهاليز النفس الملتحفة بشغف الكلمات الحارقة تتحسس صمتها وحزنها في شغف الكتابة الشعرية. يقول: ” حتى الحزن، ليس له طعم الماضي. لا أفكر في الفرح الآجل/ وعلى مضض أسير مع خيط الحياة” ص6-    وهنا نجد تجاوز النوستالجيا: “حتى الحزن ليس له طعم الماضي” تقولب الحزن كشيء مألوفٍ فقد نكهته، وهو تطور عميق لفكرة أن حتى المشاعر المركونة على جدران النسيان، لم تعد تحمل نفس الحدة أو الخصوصية.

ديوان زارني الشعر يغوص في أعماق الذات البشرية عبر إحساس وهسيس إنساني. والذات هنا ليست منغلقة على ذاتها، بل هي ذات مرآة تعكس قلق الإنسان في زمن محفوف بالانزياحات والصراعات. الحزن في الديوان ليس حزنًا عابراً بل استنفاد للمشاعر بسبب فائض المعاناة، ما يجعل حتى الألم يفقد حدّته ويصبح رتيبًا.

وحين يقول: “لا أفكر في الفرح الآجل” هي جملة شعرية تكشف عن رفض للوعود المستقبلية الواهمة أو المؤجلة. الشاعر يعيش في الحاضر المؤلم، ويرفض تعويضات الغد. هذه سمة وجودية واضحة، الفرح الآجل قد يكون وهماً يُستخدم لتمويه آلام الحاضر، والشاعر يفضّل مواجهة الواقع كما هو، مهما كان مُرّاً. يقول: ” أقسى شيءٍ يوجعني هو أن أبكي بدمعٍ باردٍ”.

يتميز أسلوب محمد كاظم بلغة رصينة غير تقليدية، غالباً ما تميل إلى التكثيف والانزياح والتجريب في الصورة. الصور الفنية في الديوان ليست زخرفية، بل هي أداة كشف عن هشاشة الوجود وتفكك اليقينيات. قد يستخدم مشاهد يومية بسيطة ليقول من خلالها ما هو فلسفي وعميق. كقوله: ” أعبئ أيامي بكيس مثقوب ” و ” بخطى مرتبكة أدوس على جثة أيامي وأنوء بثقل السنوات، أشرب من ماء جمرها واهتدي بمرايا حبرها”. ص 33.

هي القصيدة جدول الحياة وينبوعه الذي يغسل اغتراب وأحزان وقلق وعزلة محمد كاظم، الذي يتعمد بطهر القصيدة من براثن زمن ملوث ومشوه. وحنين كبير لذكريات المدن: ” في دمشق رأيت بردى يضمد جرحه بالياسمين” و ” في بيروت دلتني امرأة على مقهى الشعراء”.

المشهد الشعري عند الشاعر محمد كاظم وسؤال الدهشة الذي ينبثق منه ذلك المشهد وكيف تنتج تلك العلاقة منظومتها الدلالية المفتوحة.  الإحساس بالاغتراب على صعيد المكان والعالم الجواني للذات الشاعرة يفجر اللغة في بستان القلب، روح الشاعر تقتات من نبض القصيدة، والشعر هو الرئة التي يتنفس من خلاله بوح القصيدة.

” على حافة الحياة أردّد أغنية طواها النسيان، وأجهز على ما تبقى من رمق/ كي أجد تفسيراً لعزلة انتقيها بمزاج صعبٍ”   ” ص 5 –

قصائد (زارني الشعر) ليست للراحة وتزجية الوقت لحين انجلاء غيمة سوداء، بل هي العبور الموفق والآسر إلى قلب اللغة لتحريكها، وإضافة الكفيل الضامن بتحريك الذائقة ورفدها باسم مشتغل ودينامي فالأداة الشعرية هنا هي أداة الشاعر التي مرت بمراحل عديدة في مختبره الشعري، لذا فهي أداة طيعة ومتوارية في نفس الوقت. يقول: ” حينما زارني الشعر استقبلته في بيته. فأخذني على حين غفلةٍ، دلاني على طرقٍ موصدةٍ وأخرى مفتوحة. أحياناً كان يتركني في محطة باص.. أو مقهى منسي/ وفي آخر العمر يضيعني في مطارات كبيرة”. ص 12

قصيدة محمد كاظم الطازجة من حيث روحها الأولى ومن حيث اشتغالها على لغة صافية وضمن هذه اللغة المشكلة بتعب واجتهاد لا يخلوان من معرفة عميقة بها، قصيدة تخلص لكل شيء من الذات وانتهاء بالمرأة كدال وطرف قوي في معادلة الحياة، طرف مرجح ومغر، ومع أن المرأة علامة فارقة وواضحة في سياق التعرف إليها واكتشافها في بعدها الميتافيزيقي، والكتابة عنها وفيها تحتاج إلى معرفة هذا الكائن الحساس والجارح في الوقت نفسه، ومن داخله المغلق إن محمد كاظم يعرف هذا المغيب في حسابات الآخر ويقيم العلاقة المثلى مع هذا الكائن، عندما لا تبقى المرأة الجسد أو المرأة بحضورها الفيزيولوجي. يقول: ” على وَجْهِها يسكبُ القدّاحُ

آخرَ قَطْرَةٍ.. مِن صَوتِها يَستحي البُلبلُ.. حين يُغنّي عَلى غُصْنها المَيّاسِ” ص 14

. ويقول أيضاً:” اختصر نسيانكِ بكلمة أحبكِ”ص24

ويضيف: ” في (شال شامي) رأيت قاسيون من بعيدٍ يفتح في الأفق ملاذاً للياسمين” ص18-

إن ديوان زارني الشعر؛ لن يمر مرور الكرام بكل ما يثيره من الحب والحزن والأسئلة، فقد كان التعبير الأكثر صحة عن التجاور المثمر بين مفردات كثيرة في هذي الحياة. لم يستطع العديد من الشعراء ملامستها وإن تبجحوا كثيراً في اصطيادها وأسرها والعمل بها. مع (زارني الشعر) للشاعر محمد كاظم نكون قد رمينا عن كاهلنا شيئاً من دين القصيدة علينا.

Leave a Comment
آخر الأخبار