الحرية- باسمة إسماعيل:
بين عبق الحطب وأصوات المطر الأولى، تستيقظ في بيوت الساحل السوري طقوس قديمة تعبق برائحة القرع البلدي، معلنة بداية موسم “ذهب الشتاء” كما يسميه الأهالي، ليس مربى القرع مجرد حلوى، بل هو حكاية دفء وتاريخ متوارث، يعيد للأذهان أصالة الماضي ونكهة الأجداد.
“ذهب الشتاء” من طعام إلى حكاية
يعد مربى القرع البلدي من أبرز الحلويات الشعبية الشتوية في ريف الساحل السوري، فهو مزيج من المذاق الأصيل، والفائدة الغذائية، والرمز الثقافي الذي يربط الأجيال، كما ذكر في حديثه لـ”الحرية” الباحث في التراث الدكتور غسان القيم.
ولفت إلى أنه مع أول نسائم الشتاء الباردة تتحول البيوت إلى محطات عبق لا يقاوم، إذ تمتزج رائحة الحطب مع نفحات القرع الناضج، وتكتمل السعادة حين تتسلل رائحة الليمون الحامض البلدي وماء الزهر إلى المطبخ، معلنة بدء موسم إعداد المربى.
وبيّن القيم أن القرع غذاء قديم في مناطق الساحل السوري، ارتبط منذ قرون بالزراعة الموسمية والمواسم الباردة، لما يتمتع به من غنى بالألياف والفيتامينات والمعادن.
وقد كان الأجداد يعتبرونه “ذهب الشتاء” لأنه يحفظ طاقة الجسم ويقي من برد الأيام القاسية.
طقوس عائلية تنسج ذاكرة المكان
وأضاف د. غسان أن وصفة مربى القرع انتقلت عبر الأجيال شفهياً، وبقيت جزءاً من التراث الشعبي وطقوس الشتاء، حيث يجتمع أفراد العائلة حول القدر النحاسي الكبير، لمتابعة طهي المربى وتقاسم الحكايات والأغاني الشعبية، فيما تُعلَّم الصغار أسرار هذه الحلوى التقليدية.
ويتابع قائلاً: لقد أصبح مربى القرع رمزاً للدفء العائلي والتراتبية الاجتماعية الريفية، وجسراً بين الماضي والحاضر، حيث يربط بين الأجيال ويحيي ذكريات الطفولة، ويمثل جزءاً من الهوية الثقافية الغنية لسكان الساحل السوري، إنه أكثر من أكلة، إنه حكاية الشتاء ودفء البيوت، وقطعة من التاريخ الحي لكل مَن يتذوقه.
خطوات الذهب البرتقالي
تروي مطيعة أم علي طريقتها المتوارثة في إعداد مربى القرع قائلة: نختار القرع البلدي الأصفر الناضج، ذا القوام المتماسك والطعم الحلو، يقشر ويقطع إلى مكعبات متوسطة، ثم ينقع في محلول ماء الكلس، للحفاظ على لمعانه وتماسكه، بعد ذلك نغلي السكر مع الماء لتكوين القطر، ونضيف قطع القرع ليطهى على نار هادئة، وقبل النهاية بعشر دقائق نضيف عصير الليمون وماء الزهر لإضفاء الرائحة الشرقية المميزة، وبعد أن يبرد يحفظ في برطمانات نظيفة وجافة.
وتتابع: يقدم مربى القرع صباحاً على الخبز الطازج أو مع الجبن البلدي إلى جانب الشاي أو القهوة، ويعد ضيفاً دائماً على موائد الشتاء في الجلسات العائلية ومناسبات الضيافة، حتى أن بذوره تجفف ويصبح بزراً للتسلية.
القيمة الغذائية غذاء للروح والجسد
تؤكد الدراسات الغذائية أن مربى القرع غني بالألياف التي تحسن الهضم، ويحتوي على فيتامينات A وC، ومعادن كالبوتاسيوم والمغنيسيوم، ما يجعله غذاء متكاملاً يمنح الدفء والطاقة في برد الشتاء، كما يعتبر مثالياً للأطفال وكبار السن لسهولة هضمه، ومفيداً للحامل لغناه بحمض الفوليك الضروري لنمو الجنين.
ومن فوائده الصحية الأخرى: دعم الجهاز التنفسي، طرد الطفيليات المعوية، تنظيم مستويات السكر في الدم، ومكافحة الإمساك وعسر الهضم.
أكثر من طبق شعبي.. هو حكاية
يبقى مربى القرع في الساحل السوري أكثر من طبق شعبي أو وصفة منزلية، إنه ذاكرة جماعية تعبق بالحب والبساطة، وحكاية تروى كل شتاء برائحة الليمون وماء الزهر وكما قال الدكتور غسان القيم: “ذهب الشتاء” إنه أكثر من أكلة، إنه حكاية الشتاء ودفء البيوت، وقطعة من التاريخ الحي لكل مَن يتذوقه.