الحرية – مها سلطان:
كيف يمكن قراءة إعلان الخارجية السورية أمس بأنه لم يعد هناك وجود لاجتماعات باريس، وأن المفاوضات ستتواصل مع «قسد» في دمشق وشمال شرقي سوريا، وأنها ستنتقل من الدبلوماسية إلى التطبيق الميداني؟
قبل الإجابة لنوضح بداية أن الإعلان أشاع جواً من الإيجابية والارتياح بين عموم السوريين الذين يضعون أيديهم على قلوبهم خشية من كل ما يجري بدءاً من السويداء في الجنوب، إلى ما يسمى مناطق سيطرة المكون الكردي في الشمال الشرقي.. نعم يخشى السوريون على بلادهم من التقسيم وهم يسمعون حديث الانفصال ينتقل من الهمس (والاستحياء) إلى العلن (والصفاقة) من قبل من يعلنون عن أنفسهم متزعمي مكونات، ومعهم واجهات تنصب نفسها متحدثة باسم الأقليات، رغم أن السوريين من هذه الأقليات يُعلنون بصورة مستمرة رفضهم الانفصال والتقسيم، لكن هؤلاء المتزعمين والواجهات يعمدون إلى تغييب هذا الصوت، لمصلحة صوت الانفصال وتصديره للداخل والخارج بأنه يمثل حال السوريين ومطلبهم الأول.
لم تتخلَ الدولة السورية عن ضبط النفس وسياسة الاحتواء رغم التصعيد والتحريض الذي وصل حد الاعتداء على الجيش واستهدف الدولة بدورها وقوامها وسياساتها والسعي لدفعها نحو مواجهات مباشرة عرقية وطائفية
نعم يرتاح السوريون لكل موقف حاسم حازم تتخذه الدولة، فكيف الحال وسوريا تواجه اليوم المعركة الأخطر، معركة التوحيد بعد معركة التحرير؟.. لذلك أن تعمد الدولة إلى اتخاذ قرار بأن الحوار يجب أن يكون سورياً- سورياً، وعلى أرض سورية، فهذا أمر إيجابي يوسع مسار التفاؤل ويعزز الآمال بأن سوريا ستنتصر في معركة التوحيد كما انتصرت في معركة التحرير.
لا شك أن الدولة تعمل أقصى جهدها لتعضيد الجبهة الداخلية وتحصين «نفسية» السوريين بمواجهة من يريدون جرهم (في الداخل والخارج) إلى اليأس والانهزام، وتمرير التقسيم تحت مزاعم اللامركزية، رغم أن الدولة لم ترفض كلياً اللامركزية لكنها بالمقابل تريدها مركزية وطنية جامعة، وليس مركزية طوائف ومكونات.
على هذه النقاط ركز الرئيس أحمد الشرع في كلمة له ليل السبت الأحد – أمام عدد من الوزراء، مع أكاديميين وسياسيين وأعضاء من النقابات المهنية والوجهاء في محافظة إدلب، مؤكداً أن أنه لا يرى مخاطر تقسيم على سوريا، وأن ما يظهر هو رغبات عند بعض الناس، ولكن منطقياً وسياسياً وعرقياً فإن التقسيم مستحيل أن يحدث. وقال: أسقطنا النظام في معركة تحرير سوريا، ولا يزال أمامنا تحدي توحيد سوريا، ويجب ألا يكون بالدماء أو بالقوة العسكرية.
كانت هذه الكلمة رسالة باتجاهين: السويداء و«قسد» النقطة الرئيسية فيها أن سوريا- الدولة والشعب- وحدة واحدة لن تقبل التقسيم.
ولأن الحديث الأساسي هنا هو عن قسد (ما بعد مؤتمر وحدة المكونات) فإن الرئيس الشرع ركز في كلمته على اتفاق 10 آذار، وعلى تنصّل قسد من متطلباته الميدانية والسياسية، فيما تسعى الدولة السورية إلى تسريع تطبيقه بما يضمن الاستقرار والأمن، ولذلك هي تواصل التفاوض مع قسد داخل سوريا وخارجها (باريس) إذ لا مشكلة في المكان طالما أن الهدف هو الحفاظ على سوريا ووحدتها واستقرارها، لكن ممارسات قسد في الميدان، كما يضيف الرئيس الشرع، تتعارض سلباً مع ما تقوله في سياق عملية التفاوض لتنفيذ اتفاق 10 آذار. ويؤكد الرئيس الشرع أن «هناك قواعد عامة رسخت في سوريا ونالت مباركة جميع الدول الإقليمية والكبرى، تتمثل في وحدة الأراضي السورية وحصر السلاح بيد الدولة، وهذه البنود متفق عليها محلياً وإقليمياً ودولياً، وغير قابلة للمساومة».
الآن.. وبالعودة إلى سؤال كيف نقرأ إعلان الخارجية السورية الآنف الذكر، وضمن أي سياقات يمكن إدراجه، وما الذي دفع إليه وبصورة بدت نوعاً ما مفاجئة، أو على الأقل غير متوقعة بالنسبة للطرف الآخر؟
يرتاح السوريون لكل موقف حاسم حازم تتخذه الدولة.. وعندما تتخذ الدولة قراراً بأن الحوار يجب أن يكون سورياً- سورياً وعلى أرض سورية فهذا أمر إيجابي يوسع التفاؤل بأننا سننتصر في معركة التوحيد كما انتصرنا في معركة التحرير
عملياً، مارست الدولة السورية طوال الأشهر الثمانية الماضية عملية ضبط نفس مشهود لها، وانتهجت سياسة احتواء الجميع، مؤكدة في كل مرة أن أبوابها ستبقى مفتوحة للجميع. ورغم التصعيد المتواصل في بعض المناطق، مدفوعاً بتأثير خارجي (وبعضه داخلي) والذي وصل إلى حد الاعتداء على الجيش وبما مس هيبة الدولة واستقرارها، إلا أنها لم تتخلَّ عن ضبط النفس وسياسة الاحتواء.. ورغم أن الدولة كانت عرضة – طوال الأشهر الماضية – لعملية استهداف مُمنهج لدورها وقوامها وسياساتها، ولتحريض واستفزاز مستمرين لدفعها باتجاه سياقات خاطئة، أو وضعها بمواجهة مباشرة مع بؤر التهديد والتحريض، إلا أنها استمرت على نهج الاحتواء وضبط النفس.
ومن هنا فإن البعض اعتبر إعلان الخارجية السورية حول انتهاء «عملية باريس» وقبلها تعليق المشاركة بها (وكان من المفترض انعقاد محادثات في باريس بين الحكومة وقسد منذ نهاية تموز الماضي ولكن جرى تأجيلها غير مرة بسبب أحداث السويداء) .. من هنا اعتبر البعض إعلان الخارجية السورية نوعاً من التخلي عن ضبط النفس والتوجه نحو التصعيد بمواجهة التصعيد الذي تُقابل به، ومنذ أيام نشهد سيلاً من الأخبار والتقارير المتداولة حول تصعيد ميداني مقبل بين الحكومة وقسد على اعتبار أن هناك تحشيداً عسكرياً (وضمنه اشتباكات) بين الجانبين، دون استبعاد العامل التركي الذي يتم تقديمه في هذا الإطار بصورة من يدفع الحكومة باتجاه التصعيد وحسم ملف قسد، ويدللون على ذلك بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية أسعد الشيباني ومعه وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، إلى تركيا، واتفاق التعاون العسكري الذي تم توقيعه، باعتباره رسالة تهديد تركية واضحة ومباشرة لقسد.
بالقراءة الاستراتيجية، لن يكون هناك تصعيد ميداني يكسر «خطوط الاشتباك» الحالية إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح، ومن الخطأ ربط إعلان انتهاء عملية باريس بتصعيد ميداني مقبل، كما أنه ليس قراراً بالتخلي عن ضبط النفس باتجاه تصعيد ميداني من قبل الدولة السورية.
مبدئياً، يمكن إدراج الانسحاب من اجتماع باريس ومن ثم نقل العملية برمتها إلى الداخل السوري، بأنه حالة ضبط محسوب للخروج من حالة ضبط النفس السابقة، مع تأكيد التمسك بالحوار مع قسد.
بمعنى أن حالة ضبط النفس التي كانت سائدة خلال الأشهر الماضية ربما لم تعد مواتية أو مفيدة، وبالتالي يمكن استبدالها بحالة ضبط نفس موازية، أو بأخرى أجدى وأكثر تأثيراً.
عندما عمدت قسد إلى عقد مؤتمر بصيغة طائفة عرقية في 9 آب الجاري، وقدمته زوراً تحت عنوان «مؤتمر وحدة الموقف» وبهدف تصديره إلى الخارج (وحتى إلى السوريين) على أنه جبهة أقليات ضد الدولة، وبما يَسِم الدولة بالضعف والعجز عن حماية السوريين مقابل تقديم قسد على أنها حامية جامعة لهم، وصولاً إلى تحقيق الهدف الأساسي وهو تقسيم سوريا…
عندما فعلت قسد ذلك كان لا بد للدولة أن تتخذ مسار رد حاسم وحازم وأن تضع الأمور في نصابها وترد بالطريقة التي تؤكد قوة الدولة وقدرتها، وبالتوازي تطمئن السوريين إلى أن الدولة فقط هي الجامعة الحامية وأنها قادرة حتماً وكلياً على الحفاظ على سوريا واحدة موحدة.
من الخطأ قراءة انتهاء «عملية باريس» باعتبارها تخلياً عن التفاوض أو عن ضبط النفس الذي تمارسه الدولة بل يمكن قراءتها ضمن حالة ضبط محسوب للخروج من حالة ضبط النفس السابقة التي لم تعد مواتية أو مفيدة
ما أقدمت عليها قسد عبر مؤتمر وحدة المكونات كان خطأ قاتلاً ليس ضد الدولة فقط بل ضد السوريين أنفسهم ونظرتهم إليها باعتبار أنها حولت نفسها إلى «عامل خيانة» لا بد أن يستدعي تحركاً عاجلاً سواء ميداني أو سياسي، بمعنى أنها أعطت للدولة السورية كامل التبريرات للتعامل معها عسكرياً، ومع ذلك فإن الدولة السورية ردت بالكثير من الحكمة واحتواء الموقف (تقدير موقف) باتجاه فرصة أخرى (وأخيرة ربما) لتعود قسد عن نهجها الانفصالي، ولا شك أننا سنشهد في الأيام المقبلة مسار تفاوض مختلفاً.
.. يبقى أن ننتظر تحديد موعد أول محطة تفاوض بالمسار الجديد الذي أعلنته الدولة السورية، لنوسع الدائرة ويكون في الأفق مجال أكبر للتحليل والتوقع وبناء أفهم أفضل للمرحلة المقبلة.