الحرية- جواد ديوب:
قضى الفنانون السوريون الشباب معظم سنواتِ أعمارهم ضمن متاهات الحرب المجنونة، وكادت تطيح بهم نحو هاوية الكآبة، وجحيم الضغائن، واحتمالات الموت، لكنهم اختاروا الفنّ وسيلةً للنجاة، متكئين على قلوبهم، ومستخدمين الألوان؛ بل كل ما يمكن من فراغ وكتلة وضوء وصوت وخامات وتقانات حديثة ليكملوا أحلامهم بوطن معافى.
هذا ما يفعله الشباب المشاركون في معرض “طريق”، الذي أقامته مؤسسة مدد للفنون بنسختيه؛ الأولى كانت ضمن “مبنى وردة مسار”؛ والنسخة الثانية هي الحالية، بما يقارب 65 عملاً، والتي تستمد معنىً جديداً من كلمة الطريق؛ لأنه معرضٌ يبدأ من دمشق/محطة الحجاز كمكان تعريفي بمضمون المعرض وأسماء الشباب الذين قدّموا حكاياتهم وتساؤلاتهم مكتوبةً إلى جوار أعمالهم، ثم يوزّع رِحالَه في أربع مدن سورية عريقة: حمص واللاذقية وإدلب وحلب.
تراكمات واحتراقات!
الفنانة دلع جلنبو تشرح لنا عملها الذي انتقلت به إلى حلب (محطة بغداد للقطارات) وتقول:
“فكرتنا هي التسامح الذي نحتاجه في كل تفاصيل حياتنا، والتسامح طريق بحاجة إلى صبر وتفهم وتضحيات. عملي هو لوحاتٌ جدارية بعنوان (تراكم) تتحدث عن العلاقة بين الإنسان والآخر، سواء المكان أو المعشوق، حيث نجد تراكمات في طريق العلاقات منها ما هو محزن ومنها يحمل الفرح، جسّدتها بخطوط وسماكات ألوان (عجينة الفوم) رمادية متماوجة مع الأسود، وهناك الشموع المغروسة في قماش اللوحات الأربع يصبح ذوبانها وتراكمات بياض الشمع هو التضاد مع السلبية والظلمة داخل قماش العلاقات، وهي الضوء المنبعث بسبب الاحتراق، بسبب التضحية المنعكسة في احتراق قماش اللوحة فعلياً أمام المتفرج، لكن هذا الأثر موجود حتى لو لم يكن أثراً إيجابياً، ويتركنا أمام أسئلة يجب أن نوجد أجوبتها في دواخلنا وذكرياتنا مع من حولنا.”
نحن بحاجة إلى حضن!
وفي عمل وئام تعتوع “مراية”، والذي تقدّمه في اللاذقية/محطة القطارات، نشاهدُ تلفونات قديمة (أبو قرص) تذكرنا بحميمية تواصلنا القديم، وعندما يرفع أحدُ الحضور السماعةَ سيسمع صوتاً يهمس له: “الضياعُ الذي أنتَ فيه هو من حقك، يجعلك ضعيفاً وجباناً أحياناً، وهذا جزءٌ من بشريتنا يجب أن نتقبله لنمضي في الطريق إلى الأمام، وعلينا أن نتفهم ضعف الآخرين، وأن نمسّدَ على أرواحنا بدلاً من أن نجلدها”.
توضح الشابة تعتوع مقصدها من ذلك بالقول: “قد يبدو الكلام مثالياً، لكن الصوت الهامس يشبه (مراية) مونولوجاً داخلياً نطبطبُ به على أرواحنا المتعبة؛ فعندما نتقبل أنفسنا ونتفهمها، سنتفهم الآخرين. والهاتف الثاني يهمس: أنت هو أنت وليس بالضرورة كما يراك الآخرون، أما الثالث فيهمس لمن يرفع السماعة: قد تقولون إن الناس اليوم ضيّعوا أنفسهم والطريقَ والمحبةَ… نحن بأمس الحاجة للاحتضان لأنه يواسي تعب الأرواح”.
مجرد أرقام!
وكانت آلاء حبّوس مصدومةً من هول الفجائع تتساءل عبر عملها “رقم” (يُعرض في حلب/محطة بغداد) كيف يمكن لشخصٍ ما له اسمٌ ووجودٌ وحياةٌ وذكريات… أن يصبحَ مجردَ رقمٍ في عدّاد الموت!
تقول لنا: كنتُ أنخيلُ مشهد الموتى في برادات المشافي، كيف يربط عمالُ المشرحة على أرجلهم أو أيديهم بطاقة بيضاء مع رقم! كنتُ أحزن ويصيبني الفزع من أن يتحولَ الإنسان إلى مجرد رقم؛ لذلك جسّدتُ الموتى على شكل بطاقات مربّعة هي كروت صور الكاميرات الفورية مرقّمة بأرقام لا متناهية. لكن من مفارقات الحياة المؤلمة أن البعض يموتون حتى دون أن يحصلون على هذا الرقم”!
“شويّة تفاؤل”!
فيما تتشابه بعض الأعمال؛ ليس فقط من حيث شكل “التجهيز في الفراغ” بالأسلاك المتدلية من السقوف، بل بنفحة الأمل المتضمنة فيها، حيث توجه الشابة رالة طرابيشي عبر عملها (اغرِس/تعرضه أيضاً في حمص/محطة القطارات) نداءَ أمرٍ للمتلقي، تناشده وتقول:
“اغرس سيفك في التراب بدلاً من أن تقاتلَ به، ضَع حداً للعنف والكراهية بإرادتك وبعقلك، مهما بدت جراحك كبيرة”!
لذلك هناك بعض السيوف المتدلية تلامس الأرض، في إشارة من الفنانة كيف يمكن أن تتحول السيوف إلى شكل مثمر إيجابي ينبتُ غرساً خيّراً، وخاصةً مع استخدامها مادة الريزين الحنونة بدلاً من المعدن الصلب الجارح، وهناك -كما تشير طرابيشي- نجد الممر بين كتلة السيوف المتدلية كشلال تجعل الشخصَ الموجودَ داخل مجسم العمل يشعر أن هذه السيوف ليست تهديداً، بل من الممكن أنها ذكرى مواقف موجعة، لكنها صارت ذكرى فعلاً.”
إننا هنا.. وما زلنا!
هكذا يبدو معرض “طريق” -الممتد من دمشق إلى حلب مروراً بحمص واللاذقية وإدلب- مساحةَ إبداع متعددة الاحتمالات، اختصرها الشباب المشاركون بعباراتٍ قالها فنانون مشاهير أَجمعوا عليها وعلّقوها في فضاء صالة محطة الحجاز، نقرأ بعضها:
– “المستقبل هو اليوم؛ واليوم هو نحن/المعمارية العراقية الراحلة زُها حديد”.
-“إنّ منتهى الصدق هو غايةُ الفن؛ أرسمُ لأدركَ مَن أنا/الراحل فاتح المدرّس”.
-“تنجز الأشياء العظيمة بسلسلة من الأشياء الصغيرة مجتمعةً/الفنانة الراحلة بثينة علي”.
وقالوا أيضاً: إننا هنا، ومن هنا، وما زلنا هنا؛ جزءٌ من هذه المدنِ العظيمة”.