ملف «الحرية».. الإجهاد المائي مستمر وتحذيرات من عجز مائي يطول سوريا بحلول 2030 …

مدة القراءة 11 دقيقة/دقائق

الحرية- رشا عيسى:

يتموضع تحدي إدارة ندرة الموارد الاقتصادية عموماً والموارد المائية خصوصاً في درجة عالية من الخطورة والأهمية في آن معاً على المستوى المحلي، خاصة أننا نشهد ندرة في المياه سواء لناحية مياه الشرب أو المياه اللازمة للزراعة وري المحاصيل الزراعية، بينما حذرت الدراسات من خطر الجفاف العالمي وتوقعت أن تشهد سوريا التي تقع في المرتبة 31 عالمياً بين الدول التي ستعاني عجزاً مائياً مع بداية عام 2030، في وقت لم تعد فيه المياه مجرد مورد طبيعي غير محدود، بل مورد اجتماعي واقتصادي حيوي، تنطبق عليه المفاهيم والأدوات الاقتصادية للمساهمة في تحقيق الرفاه الاجتماعي، وتعظيم العوائد الاقتصادية واستخدامها بشكل مستدام.
ولا ينفصل ملف المياه عن الملفات الأخرى، طالما كان الموقع الجغرافي لسوريا وما يعنيه جيوسياسياً عاملاً حاسماً في صياغة سياسة الفاعلين في المنطقة اقليمياً ودولياً عبر التاريخ، وهو العامل ذاته الذي يجعلها اليوم مساحة لتقاطع المصالح وسط تغيُّرات جوهرية في ملامح شرق أوسط جديد بوصلته الاستقرار والتنمية والتعايش المشترك.

معركة إدارة الندرة الاقتصادية لا تزال ضبابية والهزيمة تعني المزيد من الدمار

من هذا المنظور، تُعد إدارة الموارد الطبيعية والثروات الباطنية في سوريا (مثل النفط والغاز والمياه) أنها تمثل تحديًا كبيرًا بسبب عوامل متعددة سابقة تشمل السياسات الاقتصادية، والصراعات والعقوبات الدولية، وضعف البنية التحتية، والفساد.

ميزات كُلية ونسبية

وعليه عانت سوريا خلال فترات طويلة من سوء إدارة الموارد سبب ولوج اقتصاد الندرة، وكان في معظمه لتحقيق مصالح مرتبطة بمنظومة الفساد بعيداً عن التخطيط الاستراتيجي، وتحقيق النمو عبر الاستفادة من الفرص المتاحة والموقع المميز (سلاسل الإمداد عبر الترانزيت من الشرق الى الغرب وبالعكس – خطوط نقل النفط والغاز عبر الأراضي السورية – المطارات والموانئ – الثروات الباطنية والطبيعية)، والتي كان بالإمكان تحقيق قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد عبرها، وميزات كلية ونسبية تتحقق من فائض الإنتاج وعوائد الخدمات كما يوضح الباحث في الشأن الاقتصادي والسياسي المهندس باسل كويفي لـ( الحرية).

سوء إدارة

وعليه يرى كويفي أن سوريا عانت وتعاني حالياً من ندرة في الموارد، وفيما يخص المياه، فإن سوء إدارة برامج الري وعدم كفاءة شبكات التوزيع أديا إلى استنزاف المياه الجوفية، حيث تم حفر آبار ارتوازية بشكل كبير ودون تراخيص أدت إلى نضوب الينابيع الطبيعية في مناطق عديدة.

كويفي: سوء إدارة برامج الري وعدم كفاءة شبكات التوزيع أديا إلى استنزاف المياه الجوفية

وعلى سبيل المثال فإن الآبار الارتوازية التي تم حفرها حول نبع بردى أدت إلى جفاف بحيرة نبع بردى، وكذلك الآبار في نفس المنطقة وحتى سفوح جبل الشيخ أثرت تأثيراً كبيراً على تدفق نبع الفيجة ويغذي مياه الشرب في دمشق، كما ساهمت التغيرات المناخية في تفاقم الجفاف، إضافة إلى أن السدود الكبرى (سد نهر الفرات) لا تُدار بطريقة مستدامة، ولا ننسى ضياع معظم مياه نهر السن العذبة إلى البحر.

ندرة متعددة

ويجدد كويفي أن الندرة لا ترتبط بالمياه فقط، بل تتعلق بحوامل الطاقة والأمن الغذائي والمائي، رغم امتلاكها احتياطيات من النفط والغاز، ومع ذلك، فإن الإدارة غير الكفوءة فاقمت المشكلة، وخصوصاً بعد تراجع الإنتاج بسبب النزاع، ونقص الاستثمارات التقنية والتكنولوجية، واحتكار معظم الإيرادات النفطية لمنظومة الفساد خلال فترة النظام البائد، كما أن وجود صراعات ونزاعات إقليمية ودولية على الساحة السورية وخلافات حدودية بحرية حال دون استثمار البلوكات النفطية والغازية في البحر المتوسط على الساحل السوري والتي تقدر باحتياطيات عالية.

إخفاق في تحقيق القيمة المضافة

إن الفشل في تحقيق القيمة المضافة، عدا ما تم ذكره سابقاً، أيضاً تعتمد سوريا بشكل كبير على بيع المواد الأولية (خام النفط، الغاز، الفوسفات) دون تحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة، كذلك في الزراعة تُصدّر محاصيل أولية (مثل القطن والقمح) دون تطوير صناعات غذائية متقدمة والثروات الطبيعية النباتية التي من الممكن إنتاج أدوية بشرية طبيعية منها وتستخدم في العديد من المستحضرات الطبية،

كويفي: الندرة لا ترتبط بالمياه فقط بل تتعلق بحوامل الطاقة والأمن الغذائي والمائي

من كل ما سبق يجد كويفي أن الميزات النسبية والمطلقة غير مستغلة، ويمكن تلخيصها بالاتي:
تمتلك سوريا ميزات نسبية في الموقع الجغرافي يمكن أن تكون مركزًا لعبور الطاقة (خطوط غاز من الخليج إلى أوروبا).. الثروة المعدنية (الفوسفات، الرخام) تُستخرج دون تطوير سلاسل إنتاجية كاملة.
أما في الميزات المطلقة (مثل النفط في دير الزور والحسكة ) فتضيع بسبب النزاع وضعف التفاوض مع الشركات الأجنبية.

تبديد المورد الحيوي

بدورها، خاضت الباحثة في الشأن الزراعي الدكتورة رنيم مسلم بتفاصيل إدارة المياه، وحذرت من أن استخدامها دون مراعاة قيمتها الحقيقية في الاستخدام سيزيد في تبديد هذا المورد الحيوي.

مسلم: تعاني سوريا عجزاً مائياً يبلغ 1.1 مليار متر مكعب والأرقام ترتفع سنوياً

وترى مسلم في حديثها لـ( الحرية) أن التغير المناخي أدى إلى زيادة حدة الجفاف في منطقة الشرق الأوسط، فمنذ عام 2020 عانت هذه المنطقة وخاصةً المناطق الصحراوية الجنوبية والشرقية من سوريا من انخفاض الهطولات المطرية ودرجات الحرارة المرتفعة بشكل استثنائي، كما أدى الجفاف الناتج عن ذلك إلى آثار شديدة على الزراعة وتوفر المياه الصالحة للشرب وتناقص الأحواض المائية، وجاء ذلك في وقت أدت فيه الصراعات والاضطرابات السياسية بما في ذلك تداعيات الأزمة السورية، فضلاً عن عوامل اجتماعية واقتصادية كارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، إلى تفاقم عواقب الجفاف، خاصةً على الأمن الغذائي.

عجز مائي

وتعاني سوريا عجزاً مائياً يبلغ 1.1 مليار متر مكعب والأرقام ترتفع سنوياً تجاه العجز المائي، وتنخفض كميات سقوط الأمطار في ظل تنامي ظاهرة التغير المناخي مصحوباً بالجفاف والتصحر، ما يضع البلاد أمام مواجهة عاجلة مع تحدي المياه بجميع استخداماتها وفقا لمسلم، وخصوصاً أن الدراسات قد حذرت من خطر الجفاف العالمي، وتوقعت أن تشهد سوريا التي تقع في المرتبة 31 عالمياً بين الدول التي ستعاني الجفاف وعجزاً مائياً مع بداية عام 2030.
وتشير البيانات المحلية إلى أن حصة المواطن السوري من المياه دون خط الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب سنوياً، وتقول وزارة الموارد المائية في أنّ تكلفة تأهيل شبكات توزيع مياه الشرب فحسب تحتاج ما بين 500 و700 مليون دولار أميركي كما تؤكد.

مسلم: لا بديل عن اتخاذ إجراءات صارمة في تطبيق الري الحديث

لذلك ملف أزمة المياه يحتل صدارة التحديات التي تواجه سوريا، فمن جهة تعاني التغيرات المناخية وانحباس الأمطار، ومن جهة أخرى تعاني محدودية الموارد المائية المتاحة في ظل زيادة الطلب عليها، إضافة إلى أزمة الفاقد الكبير في الشبكات، أي ما يسمى بالإجهاد المائي (حينما يتجاوز الطلب المحلي على المياه كمية المياه العذبة في المنطقة)، أي إن هناك حاجة ملحة لرفع كفاءة إدارتها حيث يراعي تخطيط إدارة الموارد المائية جميع الطلبات المتنافسة على المياه ويسعى إلى تخصيص المياه على أساس عادل لتلبية جميع الاستخدامات والطلبات.

زراعية بامتياز

سوريا دولة زراعية بامتياز، إلا أنّ الحرب واستنزاف المياه الجوفية والجفاف المتكرر وهجرة الفلاحين تركت أثراً في الإنتاج الزراعي، خصوصاً في محافظات الحسكة وحلب وإدلب وحماة، وانخفضت إنتاجية المحاصيل الزراعية الإستراتيجية إلى الربع عما كان عليه قبل الحرب، وزاد الطلب على استيراد القمح، وهذا يعني أنّ نقص المياه سيؤثر في الأمن الغذائي وستكون آثاره الكبيرة اجتماعياً، لذلك يتعين على الحكومة ممثلة بوزارة الزراعة العمل على تحسين البنية التحتية وتطوير التخطيط الحضري المستدام والذكي لتعزيز جهود التكيف مع التغير المناخي، وتحسين إدارة الموارد المائية.

إجراءات صارمة

ولتحسين الاستدامة في استخدام المياه تبين مسلم أنه لا بديل عن اتخاذ إجراءات صارمة في تطبيق الري الحديث ودعمه، وتفعيل عمل جمعيات مستخدمي المياه وزيادة الإنتاجية في وحدة المساحة (التكثيف الرأسي العمودي أو الزراعة المكثفة)، وتعزيز الزراعة المستدامة، ورفع الجاهزية لترشيد الفلاحين وتوعيتهم وزيادة المراكز البحثية لاختيار أصناف مقاومة للجفاف تستهلك كميات أقل من المياه، وزيادة عدد محطات معالجة الصرف الصحي واستخدام مياهها في الري المقيد، إذ طرحت الحكومة السابقة 284 محطة معالجة بأحجام مختلفة، ولم تنفذها.. حيث تُقدر كمية مياه الصرف الصحي في سورية بنحو 900 مليون متر مكعب سنوياً، بينما المياه الصناعية تقدر بنحو 400 مليون متر مكعب سنوياً وعلينا الاعتراف بها كمصدر مائي إضافي بعد معالجتها، وينبغي وضع استراتيجية لذلك، زيادة قدرة المجتمع على التأقلم من خلال نشر الوعي بخطورة التغير المناخي، وتعزيز التعاون الدولي مع دول الجوار لتقاسم الموارد المائية، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.

مقترحات إضافية

ووجدت الدكتورة مسلم أنه وفي ظل حركة إعادة الإعمار والبناء، والدعم المقدم من قبل الدول الأخرى، يتعين على الحكومة تسليط الضوء على واقع المياه والعمل على دعم المزارعين من خلال تمويلهم بقروض مخصصة لإنشاء خزانات بسعات تخزينية كبيرة للاحتفاظ بمياه الأمطار بما يخدم حاجة المزارعين من الاستهلاك اليومي الحيوي للمياه بالدرجة الأولى إضافة إلى الحاجة الزراعية للمياه لري المحاصيل أو تربية الحيوانات.
كما يمكن توفير الدعم اللازم للكشف عن الآبار الجوفية، التي يتم حفرها لاستخراج المياه الجوفية الموجودة داخل الخزان الجوفي عن طريق تركيب مضخة لضخ المياه للأعلى، والتي تتوافر بكثرة في المناطق الساحلية الجبلية إلا أن تكاليف الوصول إليها والاستفادة منها والتأكد من جودتها مكلفة جداً بالنسبة لصغار المزارعين، وهي إحدى أهم المشكلات التي تم التماسها مع المزارعين في الساحل السوري.

تحديات الإدارة الفعالة

بالتوازي، أكد الباحث كويفي أن تحديات الإدارة الفعالة تتم مواجهتها عبر مكافحة الفساد والبيروقراطية وتعزيز الشفافية بنشر بيانات دقيقة عن الاقتصاد الفعلي واحتياطيات النفط والغاز والثروات الباطنية وعقود الاستثمار الأجنبي، ومشاركة المجتمع المدني والخبراء والمختصين في طرح رؤى اقتصادية اجتماعية تنموية، ووقف الهدر بكل أشكاله، واعتماد الحوكمة في الإدارة لمواكبة التطور العالمي الكبير في سياسات حفظ الموارد المائية، واعتماد تقنيات الري والزراعة الحديثة وكذلك في الطاقة المتجددة والنظيفة.

اقرأ ايضاً:

ملف «الحرية».. خبراء يُقدمون رؤية حول سياسات معالجة الندرة الاقتصادية في سوريا..

Leave a Comment
آخر الأخبار